بث مباشر للمسجد الحرام بمكة المكرمة

بث مباشر للمسجد النبوي الشريف

قرآن تي في

القاعدة الثامنة والثلاثون


القاعدة الثامنة والثلاثون

قد دلت آيات كثيرة على جبر المنكسر قلبه،
ومن تشوفت نفسه لأمر من الأمور إيجاباً أو استحباباً

وهذه قاعدة لطيفة،  اعتبرها الباري وأرشد عباده إليها في عدة آيات.
منها: المُطلَّقة: فإنها لما كانت في الغالب منكسرة القلب حزينة على فراق بعلها،  أمر الله بتمتعها على الموسع قدره وعلى المقتر قدره،  متاعاً بالمعروف.
وكذلك من مات زوجها عنها،  فإن من تمام جبر خاطرها: أن تمكث عند أهله سنة كاملة وصية ومتعة مرغّب فيها.
وكذلك أوجب الله للزوجة على الزوج النفقة والكسوة في مدة العدة،  إن كانت رجعية،  أو كانت حاملاً مطلقة.
وقال تعالى في سورة النساء:{  وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً }، [ النساء: 8   ويدخل الواجب والمستحب في مثل قوله في سورة الأنعام:{ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ }، [ الأنعام: من الآية141 ]،.
وكذلك إخباره عن عقوبة أصحاب الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين،  وتواصوا أن لا يدخلنها اليوم عليهم مسكين.
وقال تعالى في سورة الإسراء: { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ  [ الإسراء: من الآية 23، 24 إلى قوله:{ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ  [ الإسراء: من الآية26 .
وقد ذكر الله جبره لقلوب أنبيائه وأصفيائه أوقات الشدائد وإجابته لأدعيتهم بتفريج الكربات. وأمر عباده بانتظار الفرج عند الأزمات .
 فهذا أصل قد اعتبره الله،  وأرشد إليه فينبغي للعبد أن يكون هذا على باله في وقت المناسبات ويعتبره عند وجود سببه .


القاعدة التاسعة والثلاثون

في طريقة القرآن في أحوال السياسة الداخلية والخارجية

طريقة القرآن في هذا أعلى طريقة،  وأقرب إلى حصول جميع المصالح الكلية،  وإلى دفع المفاس،  ولو لم يكن في القرآن من هذا النوع إلا قوله تعالى في سورة آل عمران:
{ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ  }، [ آل عمران: من الآية159 ]،  وإخباره عن المؤمنين في سـورة الشـورى { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ }، [ الشورى: من الآية38 ]، فالأمر مفرد ومضاف إلى المؤمنين،  وفي الآية الأولى: قد دخلت عليه: [ ال ]، المفيدة للعموم والاستغراق،  يعني أن جميع أمور المؤمنين وشئونهم واستجلاب مصالحهم واستدفاع مضارهم،  معلقٌ بالشورى والتعاون على الاهتداء إلى الأمر الذي يجرون عليه في حل مشكلاتهم،  وتدعيم سلطانهم وتجنيبهم الخلاف المفضي إلى تفكك قواهم وانحلال عراهم.
وقد اتفق العقلاء أن الطريق الوحيد للصلاح الديني والدنيوي هو طريق الشورى.
فالمسلمون قد أرشدهم الله أن يهتدوا إلى مصالحهم وكيفية الوصول إليها بأعمال أفكارهم مجتمعة،  فإذا تعينت المصلحة في طريق سلكوه،  وإذا تعينت المضرة في طريق تركوه،  وإذا كان في ذلك مصلحة ومضرة،  نظروا: أيها أقوى وأولى وأحسن عاقبة،  وإذا رأوا أمراً من الأمور هو المصلحة ولكن ليست أسبابه عتيدة عندهم ولا لهم قدرة عليها نظروا بأي شيء تدرك الأسباب وبأي حالة تنال على وجه لا يضر .
وإذا رأوا مصالحهم تتوقف على الاستعداد بالفنون الحديثة والاختراعات الباهرة،  سعوا لذلك بحسب اقتدارهم،  ولم يملكهم اليأس والاتكال على غيـرهم الملقي إلى التهلكة،  وإذا عرفـوا ـ وقد عرفوا ـ أن السعي لاتفاق الكلمة وتوحيد الأمة هو الطريق الأقوم للقوة المعنوية جدوا في هذا واجتهدوا،  وإذا رأوا المصلحة في المقاومة والمهاجمة أو في المسالمة والمدافعة بحسب الإمكان،  سلكوا ما تعينت مصلحته فيقدمون في موضع الإقدام،  ويحجمون في موضع الإحجام،  وبالجملة لا يدعون مصلحة داخلية ولا خارجية،  دقيقة ولا جليلة إلا تشاوروا فيها،  وفي طريق تحصيلها وتنميتها،  ودفع ما يضادها وينقصها.
فهذا النظام العجيب الذي أرشدهم إليه القرآن: هو النظام الذي يصلح لكل زمان ومكان،  ولكل أمة. ومن ذلك قوله في سورة الأنفال:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ }، [ الأنفال:من الآية60 ]، فهذه الآية تصرح بوجوب الاستعداد للأعداء بكل ما نستطيعه من قوة عقلية،  ومعنوية ومادية،  مما لا يمكن حصر أفراده،  وفي كل وقت يتعين سلوك ما يلائم ذلك الوقت ويناسبه ومن ذلك قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ }، [ النساء: من الآية71 ]، ونحوها من الآيات التي أرشد الله فيها إلى شدة التحرز من الأعداء،  فكل طريق وسبب يتحرز به من الأعداء فإنه داخل في هذا،  ولكل وقت لبوسه،  ومن عجيب ما نبه إليه القرآن من النظام الوحيد،  أن الله عاتب المؤمنين بقوله:{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ }، [ آل عمران: الآية144 ]، فأرشد عباده إلى أنه ينبغي أن يكونوا بحالة من الحكمة واستقامة الأمور على طريقها،  بحيث لا يزعزعهم عنها فَقْدُ رئيس وإن عظم.
وما يكون ذلك إلا بأن يستعدوا لكل أمر من أمورهم الدينية والدنيوية بعدة أناس،  إذا فقد أحدهم قام مقامه غيره،  وأن تكون الأمة متوحدة في إرادتها وعزمها ومقاصدها وجميع شئونها. قصدهم جميعاً أن تكون كلمة الله هي العليا،  وأن تقوم جميع الأمور بحسب قدرتهم
وقال تعالى:{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }، [ التغابن: الآية16 ]، أي: اتقوا غضبه وعقابه بالقيام بما أمر به من كل ما فيه الخير والصلاح لكم جماعة ومنفردين،  فكل مصلحة أمر الله بها وهي متوقفة في حصولها أو في كمالها على أمر من الأمور السابقة واللاحقة،  فإنه يجب تحصيلها بحسب الاستطاعة. فلا يكلفهم الله ما لايطيقون. وكذلك كل مفسدة ومضرة لا يمكن اجتنابها إلا بسلوك بعض الطرق السابقة واللاحقة فإنها داخلة في تقوى الله تعالى،  وذلك بأسبابها،  لازم الحق حق،  والوسائل لها أحكام المقاصد.
كذلك كل ما نهاهم عنه،  فإنه أعطاهم من القوى والأسباب ما يمكنهم من البعد عنه ومن الحلال ما يستغنون به. ومن الآيات الجامعة في السياسة قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }، [ النساء: 58 ]، والآية التي بعدها.
فالأمانات يدخل فيها أشياء كثيرة،  من أجَلَّها: الولايات الكبيرة والصغيرة والمتوسطة،  الدينية والدنيوية. فقد أمر الله أن تؤدى الأمانات إلى أهلها بأن يجعل فيها الأكْفاء لها،  وكل ولاية لها أكْفاء مخصوصون. فهذا الطريق الذي أمر الله به في الولايات من أصلح الطرق لصلاح جميع الأحوال،  فإن صلاح الأمور بصلاح المتولين والرؤساء فيها والمدبرين لها والعاملين عليها،  فيجب تولية الأمثل فالأمثل:{  إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ }، [ القصص: 26 ]،.
فصلاح المتولين للولايات الكبرى والصغرى عنوان صلاح الأمة وضده بضده.
ثم أرشدهم الله إلى الحكم بين الناس بالعدل الذي ما قامت السموات والأرض إلا به،  فالعدل قوام الأمور وروحها،  وبفقده تفسد الأمور كلها ويختل الميزان لكل شيء.
والحكم بالعدل من لازمه معرفة العدل في كل أمر من الأمور،  فإن فهمت الأمة حقيقة العدل وعرفت حدوده وضعت كل شيء في موضعه،  وكان المتولون للولايات هم الكمل من الرجال والأكْفاء للأعمال فَجَرَتْ تدابيرهم وأفعالهم على العدل والسداد،  متجنبين للظلم والفساد،  ترقت الأمة وصَلَحت أحوالها،  وتمام ذلك في الآية الأخرى التي أمر الله فيها بطاعة ولاة الأمور بقوله:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، [ النساء:59]، فهل يوجد أكمل وأغنى من هذه السياسة الحكيمة الرشيدة التي عواقبها أحمد العواقب ؟.
ومن الآيات المتعلقة بالسياسة الشرعية: جميع الآيات التي شرع الله فيها الحدود على الجرائم،  العقوبات على المتجرئين على حقوقه وحقوق عباده وهي في غاية العدالة والحسن وردع المجرمين والنكال والتخويف لأهل الشر والفساد،  وتطهير المجتمع من فسادهم،  وتنقيته من جرائمهم صيانة لدماء الخلق وأموالهم وأعراضهم.
والآيات التي فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتكلم بالحق مع من كان وفي أي حال من الأحوال.
وكذلك ما فيها من النهي عن الظلم فيه إرشاد لإعطاء الناس الحرية النافعة التي معناها التكلم بالحق،  والدعوة إلى الصالح للأمة،  وفي الأمور التي لا محظور فيها،  كما أن الحدود والعقوبات والنهي عن الكلام القبيح والفعل القبيح فيها رد الحرية الزائفة الكاذبة الباطلة التي يتشدق بها الحمقى والسفهاء الذي عموا وصموا،  فلا يرون ما حل بأمم الغرب من الدمار من ثمرات هذه الحرية الفاجرة الخاسرة. إن ميزان الحرية الصحيحة النافعة هو ما أرشد إليه القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم.
وأما إطلاق عِنان الجهل والظلم والأقوال الضارة المحللة للأخلاق،  فإن من أكبر أسباب الشر والفساد،  المؤدية إلى الفوضى المحضة وانحلال الأخلاق التي هي قوام كل أمة.
فنتائج الحرية الصحيحة أحسن النتائج،  ونتائج الحرية الفاسدة أقبح النتائج،  فالشارع فتح الباب للأولى،  وأغلقه عن الثانية،  تحصيلاً للمصالح ودفعاً للمضار والمفاسد،  والله أعلم.


القاعدة الأربعون

في دلالة القرآن على أصول الطب

أصول الطب ثلاثة: حفظ الصحة باستعمال الأمور النافعة،  والحمية من الأمور الضارة،  ودفع ما يعرض للبدن من المؤذيات.
ومسائل الطب كلها تدور على هذه القواعد.
وقد نبه القرآن عليها في قوله تعالى في حفظ الصحة ودفع المؤذي:{  وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا }، [ لأعراف: من الآية31 ]، فأمر الله بالأكل والشرب اللذي لا تستقيم الأبدان إلا بهما،  وأطلق ذلك ليدل على أن المأكول والمشروب بحسب ما يلائم الإنسان،  وينفعه في كل وقت وحال. ونهى عن الإسراف في ذلك،  إما بالزيادة في كثرة المأكولات والمشروبات،  وإما بالتخليط في المطعوم والأوقات،  وهذا حمية عن كل ما يؤذي الإنسان. فإذا كان القوت الضروري من الطعام والشراب يصير بحالة يتأذى منه البدن ويتضرر منع منه،  فكيف بغيره؟.
وكذلك أباح الله للمريض التيمم إذا كان استعمال الماء يضره،  حمية له عن المضرات كلها.
وأباح للمحرم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه ويفدي،  وهذا من باب الاستفراغ وإزالة ما يؤذي البدن،  فكيف بما ضرره أكبر من هذا ؟.
ونهى عن الإلقاء باليد إلى التهلكة،  فيدخل في ذلك استعمال كل ما يتضرر به الإنسان من الأغذية والأدوية،  ودفع ما يضر بمدافعته الذي لم يقع،  والتحرز عنه وبمعالجة الحادث بالطرق الطبية النافعة.
وكذلك ما ذكره الله في كتابه من الأعمال كلها كالجهاد والصلاة والصوم والحج وبقية الأعمال والإحسان إلى الخلق فإنها وإن كان المقصود الأعظم منها نيل رضا الله وقربه وثوابه،  والإحسان إلى عبيده،  فإن فيها صحة للأبدان وتمريناً لها،  ورياضة وراحة للنفس،  وفرحاً للقلب وأسراراً خاصة تحفظ الصحة وتنميها وتزيل عنها المؤذيات.
وبالجملة فإن جميع الشرائع ترجع إلى صلاح القلوب والأرواح والأخلاق والأبدان والأموال والدنيا والآخرة،  والله أعلم.


القاعدة الحادية والأربعون

قصر النظر على الحالة الحاضرة

يرشد الله عباده في كتابه من جهة العمل إلى قصر نظرهم على الحالة الحاضرة التي هم فيها،  ومن جهة الترغيب في الأمر والترهيب من ضده إلى ما يترتب عليها من المصالح،  ومن جهة النعم إلى النظر إلى ضدها.
وهذه القاعدة الجليلة دعا إليها القرآن في آيات عديدة،  وهي من أعظم ما يدل على حكمة الله،  ومن أعظم ما يرقى العاملين إلى كل خير ديني ودنيوي،  فإن العامل إذا اشتغل بعمله الذي هو وظيفة وقته،  فإن قصر فِكره وظاهره وباطنه عليه نجح،  ويتم له الأمر بحسب حاله.
وإن نظر وتشوقت نفسه إلى أعمال أخرى لم يحن وقتها بعدُ فترت عزيمته،  وانحلت همته وصار نظره إلى الأعمال الأخرى ينقص من إتقان عمله الحاضر وجمع الهمة عليه.
ثم إذا جاءت وظيفة العمل الآخر جاءه وقد ضعفت همته وقل نشاطه،  وربما كان الثاني متوقفاً على الأول في حصوله أو تكميله،  فيفوت الأول والثاني،  بخلاف من جمع قلبه وقالبه،  وصار أكبر همه هو القيام بعمله الذي هو وظيفة وقته؛ فإنه إذا جاء العمل الثاني فإذا هو قد استعد له بقوة ونشاط ويتلقاه بشوق،  وصار قيامه بالأول معونة على قيامه بالثاني.
ومن هذا: قوله تعالى مصرحاً بهذا المعنى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً }، [ النساء: من الآية77 ]،.
فانظر كيف حالهم الأولى وأمنيتهم وهم مأمورون بكف الأيدي،  فلما جاء العمل الثاني ضعفوا عنه كل الضعف.
ونظير هذا ما عاتب الله به أهل أُحد في قوله: { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ }، [ آل عمران: 143 ]، وقد كشف هذا المعنى كل الكشف قوله تعالى:{ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً }، [ النساء: 66 ]،  لأن فيه تكميلاً للعمل الأول،  وتثبيتاً من الله،  وتمرناً على العمل الثاني.
ونظيره قوله تعالى:{ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ {75} فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ { 76 } فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِم }، [ التوبة: 75/77 ]،. فالله أرشد العباد أن يكونوا أبناء وقتهم،  وأن يقوموا بالعمل الحاضر ووظيفته،  ثم إذا جاء العمل الآخر صار وظيفة ذلك الوقت،  فاجتمعت الهمة والعزيمة الصادقة عليه،  وصار القيام بالعمل الأول معيناً على الثاني،  وهذا المعنى في القرآن كثير.
وأما الأمور المتأخرة فإن الله يرشد العاملين إلى ملاحظتها لتقوى هممهم على العمل المثمر للمصالح والخيرات. وهذا كالترغيب المتنوع من الله على أعمال الخير،  والترهيب من أفعال الشر،  بذكر عقوباتها،  وثمرتها الذميمة.
فاعرف الفرق بين النظر إلى العمل الآخر الذي لم يجىء وقته،  وبين النظر إلى ثواب العمل الحاضر الذي كلما فترت همة صاحبه،  وتامل ما يترتب عليه من الخيرات استجد نشاطه،  وقوي عليه وهانت عليه مشقته،  كما قال تعالى: { إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ }، [ النساء: 104 ]،.
وأما إرشاده من جهة النعم التي على العبد مِنَ الله بالنظر إلى ضدها ليعرف قدرها،  ويزداد شكره لله تعالى عليها،  ففي القرآن منه كثير،  يُذكِّر عباده نعمته عليهم بالدين والإسلام وما ترتب على ذلك من النعم،  كقوله في سورة آل عمران:{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ }، [ آل عمران: 164 ]، وفي قوله في سورة آل عمران:{  وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }، [ آل عمران: 103 ]، أي إلى الزيادة لشكر نعم الله .
وقوله في سورة الأنفال:{ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }، [ لأنفال: 26 ]،.
وقوله في سورة القصص:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ...
[ القصص: 72 ]، إلى آخر الآيات،  حيث يذكرهم أن ينظروا إلى ضد ما هم فيه من النعم والخير،  ليعرفوا قدر ما هم فيه منها.
وهذا الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم،  حيث قال: " انظروا إلى من هو أسفل منكم،  ولا تنظـروا إلى مـن هو فوقكم،  فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم "[1] وقوله تعالى:{  فاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }، [ الأعراف:من الآية69 ]،  وقوله:{ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى
{ 6 } وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى { 7 } وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى }، [ الضحى: 6/8 ]، إلى آخرها.


القاعدة الثانية والأربعون

الحقوق لله ولرسوله

قد ميز الله في كتابه بين حقه الخاص وحق رسوله الخاص والحق المشترك.
واعلم بذلك أن الحقوق ثلاثة:
حق لله وحده،  لا يكون لغيره: وهو عبادته وحده لا شريك له بجميع أنواع العبادات.
وحق خاص لرسوله صلى الله عليه وسلم: وهو التعزير والتوقير والقيام بحقه اللائق واتباعه والاقتداء به.
وحق مشترك: وهو الإيمان بالله ورسوله وطاعة الله ورسوله ومحبة الله ومحبة رسوله.
وقد ذكر الله الحقوق الثلاثة في آيات كثيرة من القرآن،  فأما حقه الخاص: فكل آية فيها الأمر بعبادته وإخلاص العمل له،  والترغيب في ذلك،  وهذا شيء لا يحصى.
وقد جمع الله ذلك في قوله في سورة الفتح: { لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ }، فهذا مشترك { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ }، فهذا خاص بالرسول { وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }، [ الفتح: 9 ]، فهذا حق لله وحده.
وقوله: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ }، في آيات كثيرة.
وكذلك: { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ }  .
وكذلك قوله في سورة التوبة: { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوه } [ التوبة: 62 ]، وقوله تعالى:
{ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ  }، فهذا مشترك {  إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة: 59 ]، وهذا مختص بالله تعالى.
ولكن ينبغي أن يعرف العبد أن الحق المشترك ليس معناه أن ما لله منه يثبت لرسوله مثله ونظيره في كل خصائصه،  بل المحبة والإيمان والطاعة لله لابد أن يصحبها التعبد والتعظيم لله والخضوع رغبة ورهبة.
وأما المتعلق بالرسول من ذلك: فإنه حب في الله،  وطاعة لله فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله بل حق الرسول على أمته من حق الله تعالى عليهم،  فيقوم المؤمن بحق رسوله وطاعته امتثالاً لأمر الله،  وعبودية له.
وإنما قيل له حق الرسول،  لتعلقه بالرسول،  وإلا فجميع ما أمر الله به وحث عليه من القيام بحقوق رسوله،  وحقوق الوالدين والأولاد والأزواج والأقارب والجيران والعلماء والولاة والأمراء،  والكبير على الصغير والصغير على الكبير وغيرهم،  كله حق لله تعالى،  فيقوم به العبد امتثالا لأمر الله وتعبداً له،  وقياماً بحق ذي الحق،  وإحساناً إليه،  إلا الرسول فإن الإحسان منه كله إلى أمته فما وصل إليهم خير إلا على يديه صلى الله عليه وسلم تسليماً.


القاعدة الثالثة والأربعونُ

الأمر بالتثبت

يأمر الله بالتثبت وعدم العجلة في الأمور التي يخشى من سوء عواقبها،  ويأمر ويحث على المبادرة على أمور الخير التي يخشى فواتها.
وهذه القاعدة في القرآن كثيرة:
قال تعالى في القسم الأول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا }، [ النساء: 94 ]، وفي قراءة: { فتثبتوا }، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ  }، [ الحجرات: 6 ]،.
وقد عاب الله المتسرعين إلى إذاعة الأخبار التي يخشى من إذاعتها،  فقال تعالى: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ  }، [ النساء: 83 ]، وقال تعالى:{ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ }، [ يونس: 39 ]، ومن هذا الباب: الأمر بالمشاورة في الأمور،  وأخذ الحذر،  وأن لا يقول الإنسان ما ليس له به علم،  وفي هذا آيات كثيرة.
وأما القسم الثاني: كقوله: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْض }، [ آل عمران: 133 ]،  وقوله: { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ }، [ البقرة: 148 ]،  وقوله: {  أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ }، [ المؤمنون: 61 ]،  وقوله: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ }، [ الواقعة: 10 ]، أيْ: السابقون في الدنيا إلى الخيرات: هم السابقون في الآخرة إلى الجنات والكرامات. والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وهذا الكمال الذي أرشد الله عباده إليه،  هو أن يكونوا حازمين لا يفوتون فرص الخيرات،  وأن يكونوا متثبتين خشية الوقوع في المكروهات والمضرّات.
ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ؟.


القاعدة الرابعة والأربعون

علاج ميل النفوس إلى ما لا ينبغي

عند ميل النفوس أو خوف ميلها إلى ما لا ينبغي،  يذكرها الله ما يفوتها من الخير،  وما حصل لها من الضرر بهذا الميل.
وهذا في القرآن كثير،  وهو من أنفع الأشياء في حصول الاستقامة،  لأن الأمر بالمعروف والنهي المجرد لا يكفي أكثر الخلق في كفهم عما لا ينبغي،  حتى يقرن بذلك ما يفوت من المحبوبات التي تزيد أضعافاً مضاعفة على الذي يكرهه الله،  وتميل إليه النفس،  وما يحصل من المكروه المرتب عليه كذلك.
قال تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ }، [ الأنفال: 28 ]، فهنا لما ذكر فتنة الأموال والأولاد التي مالت بأكثر الخلق عن طريق الاستقامة،  قال مذكراً لهم ما يفوتهم إن افتتنوا بها،  وما يحصل لهم إن سلموا من فتنتها { وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }، [ الأنفال: 28 ]،.
وقال تعالى: { هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً }، [ النساء: 109 ]،  وقال تعالى: {  مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ }، [ الشورى: 20 ]،  وقوله تعالى: {  أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ { 205 } ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ { 206 } مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ }، [ الشعراء: 205- 207 ]،.
والآيات في هذا المعنى الجليل كثيرة جداً. فإذا بان للناظر أصلها وقاعدتها سهل عليه تنزيل كل ما يرد منها على الأصل المقرر،  والله أعلم.


القاعدة الخامسة والأربعون

حث الباري سبحانه في كتابه على الصلاح والإصلاح

وهذه القاعدة من أهم القواعد،  فإن القرآن يكاد يكون كله داخلاً تحتها فإن الله أمر بالصلاح في آيات متعددة والإصلاح،  وأثنى على الصالحين والمصلحين في آيات أخر .
والصلاح: أن تكون الأمور كلها مستقيمة معتدلة آخذة سبيلها الذي سنه الله مقصوداً بها غايتها الحميدة،  التي قصد الله إليها. فأمر الله بالأعمال الصالحة وأثنى على الصالحين،  لأن أعمال الخير تصلح القلوب والإيمان،  وتصلح الدين والدنيا والآخرة،  وضدها فساد هذه الأشياء،  وكذلك في آيات متعددة فيها الثناء على المصلحين ما أفسد الناس،  والمصلحين بين الناس والتصالح فيما بين المتنازعين،  وأخبر على وجه العموم أن الصلح خير.
فإصلاح الأمور الفاسدة: السعي في إزالة ما تحتوي عليه من الشرور والضرر العام والخاص.
ومن أهم أنواع الإصلاح: السعي في إصلاح أحوال المسلمين في إصلاح دينهم ودنياهم،  كما قال شعيب عليه السلام: {  إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ  }، [ هود: من الآية88 ]، فكل ساعٍ في مصلحة دينية أو دنيوية،  فإنه مصلح،  والله يهديه ويرشده ويسدده،  وكل ساعٍ بضد ذلك فهو مفسد،  والله لا يصلح عمل المفسدين.
ومن أهم ما حث الله عليه: السعي في الصلح بين المتنازعين،  كما أمر الله بذلك في الدماء والأموال والحقوق بين الزوجين،  والواجب أن يصلح بالعدل،  ويسلك كل طريق توصل إلى الملائمة بين المتنازعين،  فإن آثارالصلح بركة وخير وصلاح،  حتى إن الله أمر المسلمين إذا جنح الكفار الحربيون إلى المسالمة والمصالحة أن يوافقوهم على ذلك متوكلين على الله.
وأمثلة هذه القاعدة لا تنحصر،  وحقيقتها: السعي في الكمال الممكن حسب القدرة بتحصيل المصالح أو تكميلها أو إزالة المفاسد والمضار أو تقليلها: الكلية منها والجزئية،  والمتعدية والقاصرة،  والله أعلم.


القاعدة السادسة والأربعون

ما أمر الله به في كتابه،  إما أن يوجه إلى من لم يدخل فيه فهذا أمر له بالدخول فيه،  وإما أن يوجه لمن دخل فيه فهذا أمر به ليصحح ما وجد منه،  ويسعى في تكميل ما لم يوجد فيه.

وهذه القاعدة مطردة في جميع الأوامر القرآنية: أصولها وفروعها.
فقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا } [ النساء: من الآية47 ]، من القسم الأول.
وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا } [ البقرة: من الآية104 ]، من الثاني والثالث،  فإنه أمرهم بما يصحح ويكمل إيمانهم من الأعمال الظاهرة والباطنة،  وكمال الإخلاص فيها،  ونهاهم عما يفسدها وينقصها.
وكذلك أمره للمؤمنين أن يقيموا الصلاة،  ويؤتوا الزكاة،  ويصوموا رمضان أمر بتكميل ذلك،  والقيام بكل شرط ومكمل لذلك العمل،  والنهي عن كل مفسد وناقص لذلك العمل.
وكذلك أمره لهم بالتوكل والإنابة ونحوها من أعمال القلوب هو أمر بتحقيق ذلك،  وإيجاد ما لم يوجد منه.
وبهذه القاعدة نفهم جواب الإيراد الذي يورد على طلب المؤمنين من ربهم الهداية إلى الصراط المستقيم،  مع أن الله قد هداهم للإسلام !!.
جوابه: ما تضمنته هذه القاعدة.
ولا يقال: هذا تحصيل للحاصل،  فافهم هذا الأصل الجليل النافع،  الذي يفتح لك من أبواب العلم كنوزاً،  وهو في غاية اليسر والوضوح لمن تفطن.


القاعدة السابعة والأربعون

السياق الخاص يراد به العام إذا كان سياق الآيات في أمور خاصة وأراد الله أن يحكم عليها وذلك الحكم لا يختص بها،  بل يشملها ويشمل غيرها،  جاء الله بالحكم العام.

وهذه القاعدة من أسرار القرآن وبدائعه،  وأكبر دليل على إحكامه وانتظامه العجيب.
وأمثلة هذه القاعدة كثيرة:
منها: لما ذكر الله المنافقين وذمهم،  واستثنى منهم التائبين،  فقال: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } [ النساء: 146 ]، فلما أراد الله أن يحكم لهم بالأجر لم يقل: وسوف يؤتيهم أجراً عظيماً،  بل قال: {  وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً  }، ليشملهم وغيرهم من كل مؤمن،  ولئلا يظن اختصاص الحكم بهم[2].
ولما قال: {  إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ } [ النساء: من الآية150 ]، إلى قوله:{ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً } [ النساء: 151 ]،.
 لم يقل: وأعتدنا لهم،  للحكمة التي ذكرناها،  ومثله: {  قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا } [ الأنعام: من الآية64 ]،  أي: هذه الحالة التي وقع السياق لأجلها {  وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ } [ الأنعام: من الآية64 ]،.


القاعدة الثامنة والأربعون

متى علق الله علمه بالأمور بعد وجودها،  كان المراد بذلك العلم الذي يترتب عليه الجزاء

وذلك أنه قد تقرر في الكتاب والسنة والإجماع أن الله بكل شيء عليم،  وأن علمه محيط بالعالم العلوي والسفلي،  والظواهر والبواطن والجليات والخفيات والماضي والمستقبل،  وقد علم ما العباد عاملون قبل أن يعملوا الأعمال.
 وقد ورد عدة آيات يخبر بها أنه شرع وقدر كذا؛ ليعلم كذا.
فوجه هذا: أن هذا العلم الذي يترتب عليه الجزاء. وأما علمه بأعمال العباد وما هم عاملون قبل أن يعملوا،  فذلك علم لا يترتب عليه الجزاء،  لأنه إنما يجازي على ما وجد من الأعمال،  وعلى هذا الأصل نزل ما يرد عليك من الآيات كقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْب } [ المائدة: من الآية94 ]،  وقوله: {  وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } [ البقرة:من الآية143 ]،  وقوله تعالى: {  وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ } [ الحديد: من الآية25 ]،  وقوله: {  وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } [العنكبوت:11 ]،  وقوله: {  ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً } [ الكهف: 12 ]،.
وما أشبه هذه الآيات كلها على هذا الأصل.

القاعدة التاسعة والأربعون

إذا منع الله عباده المؤمنين شيئاً تتعلق به إرادتهم،
فتح لهم باباً أنفع لهم منه وأسهل وأولى.

وهذا من لطفه،  قال تعالى: {  وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ }  [3][ النساء: من الآية32 ]، فنهاهم عن تمني ما ليس بنافع،  وفتح لهم أبواب الفضل والإحسان،  وأمرهم أن يسألوه بلسان الحال.
ولما سأل موسى عليه السلام ربَّه الرؤية حين سمع كلامه،  ومنعه منها،  وبلسان المقال سلّاه بما أعطاه من الخير العظيم،  فقال: {  قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [ لأعراف: 144 ]،  وقوله تعالى: { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [ البقرة: من الآية106 ]،  وقوله تعالى: {  وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ } [ النساء: من الآية130 ]، وفي هذا المعنى آيات كثيرة.


القاعدة الخمسون

آيات الرسول: هي التي يبديها الباري ويبتديها

وأما ما أبداه المكذبون له واقترحوه،  فليست آيات. وإنما هي تعنتات وتعجيزات. وبهذا يعرف الفرق بينها وبين الآيات: وهي البراهين والأدلة على صدق الرسول وغيره من الرسل،  وعلى صدق كل خبر أخبر الله به،  وأنها الأدلة والبراهين التي يلزم من فهمها على وجهها صدق ما دلت عليه ويقينه.
وبهذا المعنـى الحديث: ( ما أرسل الله من رسول إلا أعطاه من الآيات ما على مثله آمن البشر ) ،  وأما ما آتى الله محمداً صلى الله عليه وسلم من الآيات فهي لا تحد ولا تعد من كثرتها وقوتها ووضوحها ـ ولله الحمد ـ فلم يبق لأحد من الناس بعدها عذر.
فعلم بذلك أن اقتراح المكذبين لآيات يعينونها ليست من هذا القبيل،  وإنما مقصودهم بهذا أنهم وطنوا أنفسهم على دينهم الباطل وعدم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما دعاهم إلى الإيمان وأراهم شواهد الآيات أرادوا أن يبرروا ما هم عليه عند الأغمار والسفهاء،  بقولهم: ائتنا بالآية الفلانية والآية الفلانية إن كنت صادقاً،  وإن لم تأت بذلك فإننا لا نصدقك،  فهذه طريقة لا يرتضيها أدنى منصف،  ولهذا يخبر تعالى أنه لو أجابهم إلى ما طالبوا لم يؤمنوا لأنهم وطنوا أنفسهم على الرضا بدينهم بعدما عرفوا الحق ورفضوه.
وأيضاً فهذا من جهلهم في الحال والمآل.
أما الحال: فإن هذه الآيات التي يقترحونها جرت العادة أن المقترحين لها لم يكن قصدهم الحق،  فإذا جاءت ولم يؤمنوا عوجلوا بالعقوبة الحاضرة.
وأما المآل: فإنهم جزموا جزماً لا تردد فيه أنها إذا جاءت آمنوا وصدقوا. وهذا قلب للحقائق،  وإخبار بغير الذي في قلوبهم،  فلو جاءتهم كل آية اقترحوها لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله تعالى.
وهذا النوع ذكره الله في كتابه عن المكذبين في آيات كثيرة جداً،  كقولهم: { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً } [ الإسراء: 90 ]،  وقوله: { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً } [ الأنعام: من الآية111 ]، ،  إلى آخرها.
وأيضاً إن اقتراحهم هذا ينادي صريحاً بأنهم ينسبون إلى الله العجز والعبث،  إذ أنه أرسل رسولاً لم يؤيده بالآيات الكافية في الدلالة على صدقه،  ولم يعطه من البراهين والحجج ما يبطل دعاوى خصمه.
وهذا ينافي الحكمة، ولا يتفق مع الغرض الذي من أجله أرسل الله رسوله.
وهذا أعظم كفراً وإجراماً وأشد من شركهم وفسوقهم،  وما كان يتولى كبره منهم إلا السادة الرؤساء الذين تبين لهم صدق الرسول بدون أي خفاء،  ولكنهم يحاولون بذلك صرف العامة والدهماء عن الاستماع إليه والإصغاء إلى قوله،  ولذلك يدمغهم الله بمَيّسَم الخزي عقب كل تحدٍ واقتراحٍ لآية،  بعد أن ينزه نفسه سبحانه عما ينتقصونه به.
ففي سورة الإسراء يقول عقب سرد ما اقترحوا من آيات: {  قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي }[الإسراء:من الآية93 ]، ثم يقول: { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } [ الإسراء:من الآية97 }  .
ويقول في سورة العنكبوت: {  وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ * وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ * وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ  }، [ العنكبوت: 47-52 ]،.
وأيضاً إذا تدبرت الاقتراحات التي عينوها لم تجدها في الحقيقة من جنس البراهين،  وإنما هي ـ لو فرض الإتيان بها ـ شبيهة بآيات الاضطرار التي لا ينفع الإيمان معها،  ويصير شهادة،  وإنما الإيمان النافع هو الإيمان بالغيب فكما أن الله المنفرد بالحكم بين العباد في أديانهم،  وحقوقهم وأنه لا حكم إلا حكمه،  وأنه من قال ينبغي أو يجب أن يكون الحكم كذا وكذا،  فهو متجرئ على الله،  متوثب على حرمات الله وأحكامه،  فكذلك براهينُ أحكامه لا يتولاها إلا هو،  فمن اقترح شيئاً عنده فقد ادعى مشاركة الرب في حكمه،  ومنازعته في الطرق التي يهدي ويرشد بها عباده: {  وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } [ الأنعام: من الآية93 ]،.


القاعدة الحادية والخمسون

كلّما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء،  والنهي عن دعاء غير الله،  والثناء على الداعين  يتناول دعاء المسألة،  ودعاء العبادة.

وهذه قاعدة نافعة،  فإن أكثر الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة: دعاء المسألة فقط،  ولا يظنون دخول جميع العبادات في الدعاء.
ويدل على عموم ذلك: قوله تعالى:{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }[غافر:من الآية60 ]،
أي أستجب طلبكم،  وأتقبل عملكم ثم قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ }، [ غافر:من الآية60 ]، فسمى ذلك عبادة،  وذلك لأن الداعي دعاء المسألة يطلب مسئوله بلسان المقال،  والعابد يطلب من ربه القبول والثواب،  ومغفرة ذنوبه بلسان الحال.
فلو سألت أي عابد مؤمن: ما قصدك بصلاتك وصيامك وحجك وأدائك لحقوق الله وحق الخلق؟ لكان قلب المؤمن ناطقاً ـ قبل أن يجيبك لسانه -: بأن قصدي من ذلك رضى ربي ونيل ثوابه والسلامة من عقابه،  ولهذا كانت النية شرطاً لصحة الأعمال وقبولها،  وإثمارها  الثمرة الطيبة في الدنيا والآخرة.
وقال تعالى:{ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين } [ غافر: من الآية14 ]، فوضع كلمة:{الدِّين}، موضع كلمة { العبادة }، وهو في القرآن كثير جداً: يدل على أن الدعاء هو لب الدين وروح العبادة.
ومعنى الآية هنا: أخلصوا له إذا طلبتم حوائجكم،  وأخلصوا له أعمال البر والطاعة.
وقد يقيد أحياناً بدعاء الطلب،  كقوله: {  فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } [ القمر: 10 ]، وأما قوله:
 {  وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً.. } [ يونس: من الآية12 ]، الآية،  فيدخل فيه دعاء الطلب،  فإنه لا يزال ملحاً بلسانه،  سائلاً دفع ضرورته،  ويدخل فيه دعاء العبادة فإن قلبه في هذه الحال يكون راجياً طامعاً،  منقطعاً عن غير الله،  عالماً أنه لا يكشف ما به من السوء إلا الله،  وهذا دعاء عبادة.
وقوله: {  ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [ لأعراف: من الآية55 ]، يدخل فيه الأمران،  فكما أن من كمال دعاء الطلب،  كثرة التضرع والإلحاح،  وإظهار الفقر والمسكنة،  وإخفاء ذلك وإخلاصه،  فكذلك دعاء العبادة فإن العبادة لا تتم ولا تكتمل إلا بالمداومة عليها ومقارنة الخشوع والخضوع لها وإخفائها،  وإخلاصها لله تعالى.
وكذلك قوله عن خلاصة الرسل:{ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً
[ الأنبياء: من الآية90 ]،  فإن الرغبة والرهبة وصف لهم كلما طلبوا وسألوا،  ووصف لهم كلما تعبدوا وتقربوا بأعمال الخير والقرب.
وقوله: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّه } [ المؤمنون:من الآية117 ]،  { فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً } [ الجـن: من الآية18 ]، { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [ القصص: من الآية88 ]، يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
فكما أن من طلب من غير الله  حاجة لا يقدر عليها إلا الله فهو مشرك وكافر،  فكذلك من عبد مع الله غيره فهو مشرك وكافر.
ومثله: {  وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ  
[ يونس: 106 ]، كل هذا يدخل فيه الأمران.
وقوله تعالى:{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ لأعراف: من الآية180 ]،  يشتمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
أما دعاء المسألة: فإنه يسأل الله تعالى في كل مطلوب باسم يناسب ذلك المطلوب ويقتضيه،  فمن سأل رحمة الله ومغفرته دعاه باسم الغفور الرحيم. ومن سأل الرزق سأله باسم الرزاق،  وهكذا.
وأما دعاء العبادة: فهو التعبد لله تعالى بأسمائه الحسنى،  فيفهم أولاً معنى ذلك الاسم الكريم،  ثم يديم استحضاره بقلبه،  حتى يمتلئ قلبه منه.
فالأسماء الدالة على العظمة والجلال والكبرياء تملأ القلب تعظيماً وإجلالاً لله تعالى.
والأسماء الدالة على الرحمة والفضل والإحسان تملأ القلب طمعاً في فضل الله ورجاءً لرَوْحِه ورحمته.
والأسماء الدالة على الود والحب والكمال تملأ القلب محبة ووداً وتألهاً وإنابة لله تعالى.
والأسماء الدالة على سعة علمه ولطيف خبره توجب للعبد مراقبة الله تعالى والحياء منه.
وهذه الأحوال التي تتصف بها القلوب هي أكمل الأحوال،  وأجل وصف يتصف به القلب وينصبغ به،  ولا يزال العبد يمرن نفسه عليها حتى تنجذب نفسه وروحه بدواعيه منقادة راغبة،  وبهذه الأعمال القلبية تكمل الأعمال البدنية.
فنسأل الله تعالى أن يملأ قلوبنا من معرفته ومحبته والإنابة إليه،  فإنه أكرم الأكرمين وأجود الجوادين.


القاعدة الثانية والخمسون

إذا وضح الحق وبان،  لم يبق للمعارضة العلمية،  ولا العملية محل.

وهذه قاعدة شرعية عقلية فطرية،  قد وردت في القرآن وأرشد إليها في مواضع كثيرة.
وذلك: أنه من المعلوم أن محل المعارضات وموضع الاستشكالات وموضع التوقفات ووقت المشاورات إذا كان الشيء فيه اشتباه أو احتمالات فترد عليه هذه الأمور؛ لأنها الطريق إلى البيان والتوضيح.
فأما إذا كان الشيء لا يحتمل إلا معنى واحداً واضحاً،  وقد تعينت المصلحة،  فالمجادلة والمعارضة من باب العبث،  والمعارضُ هنا لا يُلتفت إلى اعتراضاته،  لأنه يشبه المكابر المنكر للمحسوسات.
قال تعالى:{ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } [ البقرة: من الآية256 ]،. يعني وإذا تبين هذا من هذا لم يبق للإكراه محل،  لأن الإكراه إنما يكون على أمر فيه مصلحة خفية،  فأما أمر قد اتضح أن مصالح وسعادة الدارين مربوطة ومتعلقة به،  فأي داع للإكراه فيه ؟.
ونظير هذا قوله تعالى:{ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف: من الآية29 ]، أيْ هذا الحق الذي قامت البراهين الواضحة على حقِّيَّته فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
كقوله: {  لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } [ لأنفال: من الآية42 ]،  وقال تعالى:
 { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ  }، [ آل عمران: من الآية159 ]، أيْ: في الأمور التي تحتاج إلى مشاورة،  ويُطلب فيها وجه المصلحة،  فأما أمر قد تعينت مصلحته،  وظهر وجوبه فقال فيه:{ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } [ آل عمران: من الآية159 ]،.
وقد كشف الله هذا المعنى غاية الكشف،  في قوله:{ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ } [ لأنفال: من الآية6 ]، أيْ فكل من حاول في الحق بعد ما تبين علمه،  أو طريق عمله،  فإنه غالط شرعاً وعقلاً.
وقال تعالى:{ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام: من الآية119 ]، فلامَهُم على عدم التزام الأكل مما ذكر اسم الله عليه،  وذكر السبب لهذا اللوم؛ وهو أنه تعالى فصل لعباده كل ما حرم عليهم،  فما لم يذكر تحريمه فإنه حلال واضح ليس للتوقف عنه محل.
ولما ذكر تعالى الآيات الدالة على وجوب الإيمان،  وَبَّخَ ولام المتوقفين عنه بعد البيان،  فقال:
{ فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ { 21 } وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ } [ الانشقاق: 21 ]،.
ولما بين جلال القرآن وأنه أعلى الكلام،  وأوضحه بياناً وأصدقه وأنفعه ثمرة،  قال تعالى:
{ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } [ الجاثـية: من الآية6 ]،.
ولما ذكر عظم نعمه الظاهرة والباطنة،  قال تعالى: { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } [ لنجم: 55 ]، 
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن: 13 ]،  وقال تعالى:{ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ } [ يونس:من الآية32 ]،. وكذلك في آيات كثيرة يأمره بمجادلة المكذبين ويجادلهم بالتي هي أحسن،  حتى إذا وصل معهم إلى حالة وضوح الحق التام وإزالة الشبه كلها انتقل من مجادلتهم إلى الوعيد لهم بعقوبات الدنيا والآخرة،  والآيات في هذا المعنى الجليل كثيرة جداً.


القاعدة الثالثة والخمسون

من قواعد القرآن: أنه يبين أن الأجر والثواب على قدر المشقة في طريق العبادة،  ويبين مع ذلك أن تسهيله لطريق العبادة من منته وإحسانه،  وأنها لا تنقص من الأجر شيئاً.

وهذه القاعدة تبين من لطف الله وإحسانه بالعباد،  وحكمته الواسعة ما هو أثر عظيم من آثار تعريفاته ونفحة عظيمة من نفحاته،  وأنه أرحم الراحمين،  قال تعالى:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة: 216 ]، فبين تعالى أن هذه العبادة العظيمة لعظم مصلحتها وكثرة فوائدها العامة والخاصة أنه فرضها على العباد وإن شقت عليهم وكرهتها نفوسهم لما فيها من التعرض للأخطار وتلف النفوس والأموال،  لكن هذه المشقات بالنسبة إلى ما تفضي إليه من الكرامات ليست بشر بل هي خير محض وإحسان صرف من الله على عباده،  حيث قيض لهم هذه العبادة التي توصلهم إلى منازل لولاها لم يكونوا واصليها،  قال تعالى:{ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ } [النساء:من الآية104 ]،  وقال:{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ { 155 } الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }  ،  [ البقرة: 155/156 ]،  وقال: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر: من الآية10 ]،.
فكلما عظمت مشقة الصبر في فعل الطاعات،  وفي ترك المحرمات لقوة الداعي إليها،  وفي الصبر على المصيبات لشدة وقعها،  كان الأجر أعظم والثواب أكبر،  قال تعالى في بيان لطفه في تسهيل العبادة الشاقة:{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَام إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْب }، [ لأنفال: 11-12 ]،.
فذكر منته على المؤمنين بتيسيره وتقديره لهذه الأمور التي يسر بها العبادة،  مزيلة محصلة لثمراتها.
وقال تعالى: { إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {32} الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } [ يونس: 62-64 ]،.
فالبشرى التي وعد الله بها أولياءه في الحياة الدنيا من أشرفها وأجلها: أنه يسر لهم العبادات وهون عليهم مشقة القربات،  وأن ييسرهم للخير،  ويجنبهم الشر بأيسر عمل.
وقال: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى {5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } { الليل: 5-7 }،  
أيْ  لكل حالة فيها تيسير أموره وتسهيلها { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [ النحل: من الآية97 ]،.
ومن الحياة الطيبة التي يرزقونها: ذوقُ حلاوة الطاعات،  واستعذاب المشقات في رضا الله تعالى،  فهذه الأحوال كلها خير للمؤمن،  إن سهل الله له طريق العبادة وهونها حَمِدَ اللهَ وشكره،  وإن قامت العقبات صبر في اقتحامها،  واحتسب الخير في عنائه وجهاده ورجا عظيم الثواب،  وهذا المعنى في القرآن في آيات متعددة،  والله أعلم[4].



القاعدة الرابعة والخمسون

كثيراً ما ينفي الله الشيء لعدم فائدته وثمرته المقصودة منه،  وإن كانت صورته موجودة.

وذلك أن الله خلق الإنسان وركب فيه القوى،  من السمع والبصر والفؤاد وغيرها ليعرف بها ربه ويقوم بحقه،  فهذا المقصود منها،  وبوجود ما خلقت له تكمل ويكمل صاحبها.
وبفقد ذلك يكون وجودها أضر على الإنسان من عدمها،  فإنها حجة الله على عباده،  ونعمته التي توجد بها مصالح الدين والدنيا،  فإما أن تكون نعمة تامة إذا اقترن بها مقصودها أو تكون محنة وحجة على صاحبها إذا استعملها في غير ما خلقت له. ولهذا كثيراً ما ينفي الله تعالى هذه الأمور الثلاثة عن أصناف الكافرين بها المكبلين بسلاسل وأغلال التقليد الأعمى للأباء والسادة والرؤساء،  المنسلخين من آيات الله،  وإن تسموا بأسماء إسلامية ولبسوا ثياباً وألقاباً علمية،  فهم المعنيون في كلام الله بوصف الكفار والمنافقين.
كقوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ  }، [ البقرة: 171 ]، وقال في سورة الأعراف: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [ الأعراف: من الآية172 ]،.
وهذه آيات ربوبيته واضحة ناطقة فيكم،  وفي تكوينكم في أصلاب آبائكم وأرحام أمهاتكم،  وإخراجكم منها بشراً سويا،  وتسخير ما في السموات والأرض جميعاً لكم،  ثم ساقت الآيات في عاقبة غفلة الإنسان عن تلك الآيات.
وبين سبب هذه الغفلة بقوله: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا  [ الأعراف: 175 ]،
أيْ ألقاها وخلعها كارهاً لها: { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا }، [ الأعراف: 176 ]، فما أعطيناها له إلا ليتفكر بها في خلق الله وحكمته فيرتفع على درجات الكمال، ولكنه أخلد إلى الأرض البهيمية ورضي بالتقليد الأعمى الذي هو من خصائص الأنعام، ثم ختمها بسوء عاقبة هذا المنسلخ المقلد بقوله: {  لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ  }، [ الأعراف: من الآية179 ]،.
فأخبر أن صور الحواس الحيوانية موجودة ولكن فوائدها الإنسانية مفقودة ولذلك قال:{ لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج: من الآية46 ]،.
وقال:{ إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ }  [ النمل: 81 ]،.
والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً.
وقال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً 
[ النساء: 150-151 ]، فأثبت لهم الكفر من كل وجه؛ لأن دعواهم الإيمانَ بما يقولون آمنا به من الكتب والرسل لم يوجب لهم الدخول في حقيقة الإيمان؛ لأن ثمرة إيمانهم مفقودة حيث كذبوهم في صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم،  وغيره ممن كفروا به وحيث أنكروا من براهين الإيمان ما هو أعظم مما أثبتوا به رسالة من زعموا الإيمان به،  وكذلك قوله تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ }، [ البقرة:8 ]، لما كان الإيمان النافع هو الذي يُغرس في قلب سليم من الجهل والشكوك والشبهات والتقاليد ويُسقى بعصارة تدبر آيات الله الكونية والقرآنية فيثمر في القلب والجوارح أطيب الثمرات من العبادة والطاعة،  ولما كان الإيمان النافع هو الذي يتفق عليه القلب واللسان وهو المثمر لكل خير،  وكان المنافقون يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم،  نفى عنهم الإيمان لانتفاء فائدته وثمرته.
ويشبه هذا: ترتيب الباري كثيراً من الواجبات والفروض على الإيمان. كقوله: { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }، [ آل عمران: من الآية122 ]، {  وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ المائدة: 23 ]، ،وقوله: {  وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ }، [ لأنفال: من الآية41 ]، إلى قوله: {  إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ }، [ لأنفال: من الآية41 ]، وقوله:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } [ الأنفال: 2-4 ]، وذلك أن الإيمان الصادق يقتضي صدق العقيدة وأداء الفرائض والواجبات، واجتناب الشرك والمحرمات فما لم يحصل ذلك فهو بعد لم يتم ولم يتحقق، وهذا قال: {  أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } .
وكذلك لما كان العلم الشرعي يقتضي العمل به، والانقياد لكتب الله ورسله، قال تعالى عن أهل الكتاب المنحرفين:{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ  }، [ البقرة: 101 ]،.
ونظير ذلك: قول موسى عليه السلام،  لما قال له بنو إسرائيل: { أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ  }، [البقرة: 67]،
  فكما أن فقد العلم جهل ففقد العمل به جهل قبيح:


القاعدة الخامسة والخمسون

يُكتب للعبد عمله الذي باشره، ويكمل له ما شرع فيه وعجز عن تكميله قهراً عنه،  ويكتب له ما نشأ عن عمله.

فهذه الأمور الثلاثة وردت في القرآن .
أما الأعمال التي باشرها العبد فأكثر من أن تحصى النصوص الدالة عليها،  كقوله: {  بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ  }، [ المائدة: 105 ]، {  لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ }، [ البقرة: 286 ]، {  لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ  }، [ يونس: 41 ]،  ونحو ذلك.
أما الأعمال التي شرع العبد فيها وعجز العبد عن تكميلها: فكقوله تعالى: {  وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ  }، [ النساء: 100 ]، فهذا خرج قاصداً الهجرة،  وأدركه الأجل قبل تكميل عمله،  فأتم الله له ما قصد إليه وأعطاه أجره،  فكل من شرع في عمل من أعمال الخير،  ثم عجز عن إتمامه بموت أو عجز بدني أو عجز مالي أو مانع داخلي أو خارجي،  وكان من نيته ـ لولا المانع ـ إكمالُه فقد وقع أجره على الله. فإنما الأعمال بالنيات[5]،  وقال تعالى: {  وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا  }، [ العنكبوت: 69 ]، فكل من اجتهد في الخير هداه الله الطريق الموصلة إليه،  سواء كمل ذلك العمل أو حصل له عائق عنه.
وأما آثار أعمال العبد: فقد قال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا }، [ يّـس: 12 ]،
أيْ: باشروا عمله {  وَآَثَارَهُمْ  }، التي ترتبت على أعمالهم من خير وشر في الدنيا والآخرة،  وقال في المجاهدين: {  ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ  }، [ التوبة: 120 ]، فكل هذه الأمور من آثار عملهم ثم ذكر أعمالهم التي باشروها بقولـه: { وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ  }، [ التوبة: 121 ]،.
والأعمال التي هي من آثار عمل العبد نوعان:
أحدهما: أن تقع بغير قصد من الإنسان،  كأن يعمل أعمالاً صالحة خيرية،  فيقتدي به غيره في هذا الخير، فإن ذلك من آثار عمله وكمن يتزوج بقصد الإعفاف فقط،  فيعطيه الله أولاداً صالحين ينتفع بهم وبدعائهم.
والثاني: وهو أشرف النوعين: أن يقع ذلك بقصده،  كمن علم غيره علماً نافعاً فنفس تعليمه ومباشرته له من أجل الأعمال،  ثم ما حصل من العلم والخير المترتب على ذلك،  فإنه من آثار عمله.
وكمن يفعل الخير ليقتدي به الناس،  أو يتزوج للعفة ولحصول الذرية الصالحة،  فيحصل مراده،  فإن هذا من آثار عمله،  وكذلك من يزرع زرعاً أو يغرس غرساً أو يباشر صناعة مما ينتفع بها الناس في أمر دينهم ودنياهم،  وقد قصد بذلك حصول النفع له ولغيره،  فما ترتب من نفع على هذا العمل فإنه من آثار عمله،  وإن كان يأخذ على عمله أجراً وعوضاً،  فإن الله يدخل بالسهم الراحد الجنة ثلاثة: صانعه وراميه والممد به[6].


القاعدة السادسة والخمسون

تحال المصالح على قدر الوسع والطاقة

يرشد القرآن الكريم المسلمين إلى إقامة جميع مصالحهم،  وأنه إذا لم يكن حصولها من الجميع فليشتغل بكل مصلحة من مصالحهم من يقدر على القيام بها،  وليوفر وقته عليها لتقوم مصالحهم،  وتكون وجهتهم جميعاً واحدة.
وهذه من القواعد الجليلة ومن السياسة الشرعية الحكيمة،  فإن كثيراً من المصالح العامة الكلية لا يمكن اشتغال الناس كلهم بها،  ولا يمكن تفويتها،  فالطريق إلى حصولها ما أرشد الله عباده إليه، قال تعالى في الجهاد والعلم اللذين هما من أعظم مصالح الدين:{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ 
[ التوبة: 122 ]، فأمر أن يقوم بالجهاد طائفة كافية وبالعلم طائفة أخرى،  وأن الطائفة القائمة بالجهاد تستدرك ما فاتها من العلم إذا رجعت.
وقال تعالـى: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ }، [ آل عمران: 104 ]، وقال تعالى: {  وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى }، [ المائدة: 2 ]، وقال: {  فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ  }، [ التغابن: 16 ]،  وقال تعالى: {  وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ }، [ الشورى: 38 ]،.
إلى غير ذلك من الآيات الدالات على هذا الأصل الجليل والقاعدة النافعة،  وبقيام كل طائفة منهم بمصلحة من المصالح تقوم المصالح كلها،  لأن كل فرد مأمور أن يراعي المصالح الكلية،  ويكون سائراً في جميع أعماله إليها،  فلو وفق المسلمون لسلوك هذه الطريق لاستقامت أحوالهم وصلحت أمورهم وانجابت عنهم شرور كثيرة،  فالله المستعان.


القاعدة السابعة والخمسون

في كيفية الاستدلال بخلق السماوات والأرض وما فيهما على التوحيد والمطالب العالية.

قد دعا الله عباده إلى التفكير في هذه المخلوقات في آيات كثيرة وأثنى على المتفكرين فيها،  وأخبر أن فيها آياتٍ وعِبَراً نحن محتاجون إلى فهمها ومعرفة ما فيها لمصالح ديننا ودنيانا،  فينبغي لنا أن نسلك هذا الطريق المنتج للمطلوب بأيسر وأوضح ما يكون.
وحاصل ذلك على وجه الإجمال: أننا إذا تفكرنا في هذا الكون العظيم،  عرفنا أنه لم يوجد بغير موجد،  ولا أوجد نفسه ـ هذا أمر بديهي ـ فتيقنا أن الذي أوجده هو الأول الذي ليس قبله شيء وهو الآخر الذي ليس بعده شيء،  كامل القدرة عظيم السلطان واسع العلم،  وأن إعادتنا في النشأة الثانية للجزاء أسهل من هذا بكثير: { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاس } [ غافر: من الآية57 ]، وعرفنا بذلك أنه الحي القيوم.
وإذا نظرنا ما فيها من الإحكام والإتقان والإبداع عرفنا بذلك كمال حكمة الله وحسن خلقه وسعة علمه،  وعرفنا من آثار حكمته فينا وفي هذا الوجود أنه ما خلقنا لهذه الحياة قصداً وإنما خلقنا لنستعد فيها للنشأة الأخرى.
وإذا رأينا ما فيها من المنافع والمصالح الضرورية والكمالية التي لا تحصى،  عرفنا بذلك أن الله واسع الرحمة،  عظيم الفضل والبر والإحسان،  والجود والامتنان،  وإذا رأينا ما فيها من التخصيصات،  فإن ذلك دال على إرادة الله ونفوذ مشيئته ونعرف بذلك كله أن مَنْ هذه أوصافه وهذا شأنه؛ هو الذي لا يستحق العبادة أحد إلا هو وأنه المحبوب المحمود،  ذو الجلال والإكرام،  الذي لا تنبغي الرهبة إلا إليه،  ولا ينبغي صرف خالص الدعاء إلا له؛ لأن غيره من المخلوقات المربوبات مفتقرات إليه وحده في جميع شئونها.
ثم إذا نظرنا إليها من جهة أنها كلها خلقت لمصالحنا،  وأنها مسخرة لنا،  وأن عناصرها ومواردها وأرواحها قد مكن الله الآدمي من استخراج أصناف المنافع منها،  عرفنا أن هذه الاختراعات الجديدة في الأوقات الأخيرة،  من جملة المنافع التي خلقها الله لبني آدم فيها،  فسلكنا بذلك كل طريق نقدر عليه من استخراج ما يصلح أحوالنا منها،  بحسب القدرة،  ولم نخلد إلى الكسل والبطالة،  أو نزعم أن علم هذه الأمور واستخراجها علوم باطلة،  بحجة أن الكفار سبقونا إليها وفاقونا فيها،  فإنها كلها ـ كما نبه الله ـ داخلة في تسخير الله الكون لنا،  وأن يُعلم الإنسان ما لم يعلم.


القاعدة الثامنة والخمسون

الكمال إنما يظهر إذا قُرن بضده

إذا أراد الله إظهار شرف أنبيائه وأصفيائه بالصفات الكاملة أراهم نقصها في غيرهم من المستعدين للكمال. وذلك في أمور كثيرة وردت في القرآن.
منها: لما أراد الله إظهار شرف آدم على الملائكة بالعلم،  وعلمه أسماء كل شيء ثم امتحن الملائكة فعجزوا عن معرفتها،  فحينئذ نبأهم آدم بها،  فخضعوا لعلمه،  وعرفوا فضله وشرفه.
ولما أراد الله إظهار شرف يوسف في سعة العلم والتعبير رأى المَلِكَ تلك الرؤيا،  وعرضها على كل من له علم بها ومعرفة فعجزوا عن معرفتها،  ثم بعد ذلك عَبَّرها يوسف ذلك التعبير العجيب،  الذي ظهر به من فضله وشرفه وتعظيم الخلق له شيء لا يمكن التعبير عنه.
ولما عارض فرعون الآيات التي أُرسل بها موسى،  وزعم أنه سيأتي بسحر يغلبه،  فجمع كل سحار عليم من جميع أنحاء المملكة،  واجتمع الناس في يوم عيدهم وألقى السحرة عصيهم وحبالهم في ذلك المجمع العظيم،  وأظهروا للناس من عجائب السحر {  سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ }، [ لأعراف: 116 ]، فحينئذ ألقى موسى عصاه،  فإذا هي تلقف وتبتلع بمرأى الناس جميع حبالهم وعصيهم،  فظهرت هذه الآية الكبرى،  وكان السحرة أهل الصنعة أول من خضع لها ظاهراً وباطناً.
ولما نكص أهل الأرض عن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم،  وتمالأ عليه أعداؤه،  ومكروا مكرتهم الكبرى للإيقاع به،  نصره الله ذلك النصر العجيب،  فإن نصر المنفرد الذي أحاط به عدوه الشديد حَرْدُه ـ الغضب والغيظ ،  القوي مكره،  الذي جمع كل كيده ليوقع به أشد الأخذات وأعظم النكبات،  وتخلصه وانفراج الأمر له،  من أعظم أنواع النصر.
كما ذكر الله هذه الحال التي عاتب بها أهل الأرض، فقال:{ إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ  }، [ التوبة: 40 ]،.
وقريب من هذا نصره له يوم حنين،  حيث أعجبت المسلمين كثرتهم،  فلم تغن عنهم شيئا وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ثم ولوا مدبرين وثبت الله نبيه صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه سكينته ونصره في هذه الحال الحرجة،  فكان لهذا النصر من الموقع الكبير ما لا يعبر عنه،  وكذلك ما ذكره الله من الشدائد التي جرت على أنبيائه وأصفيائه،  وأنه إذا اشتد البأس،  وكاد أن يستولي على النفوس اليأس،  أنزل الله فرجه ونصره ليصير لذلك موقع في القلوب وليعرف العباد ألطاف علام الغيوب.
ويقارب هذا: إنزاله الغيث على العباد،  بعد أن كانوا من قبل أن ينزل عليهم لمبلسين،  فيحصل من آثار نعمة الله والاستبشار بفضله،  ما يملأ القلوب حمداً وشكراً وثناء على الباري تعالى.
وكذلك يذكرهم نعمه بلفت أنظارهم إلى تأمل ضدها،  كقوله: {  قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ  }، [ الأنعام: 46 ]، وقوله: {  قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ {71} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ {72} وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ  }، [ القصص: 71-73 ]،.
ونلمح مثل هذا المعنى في قصة يعقوب وبنيه: حين اشتدت بهم الأزمة ودخلوا على يوسف،  وقالوا: {  مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ  }، [ يوسف: 88 ]، الآية ثم بعد قليل قال: {  ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ  }، [ يوسف: 99 ]، في تلك النعمة الواسعة والعيش الرغيد والعز المكين،  والجاه العريض فتبارك من لا يدرك العباد من ألطافه ودقيق بره أقل القليل.
ويناسب هذا من ألطاف الباري: أن الله يذكر عباده أثناء المصائب ما يقابلها من النعم،  لئلا تسترسل النفوس في الجزع،  فإنها إذا قابلت بين المصائب والنعم خفت عليها المصائب،  وهان عليها حملها،  كما ذكّر الله المؤمنين حين أصيبوا بأحد ما أصابوا من المشركين ببدر،  فقـال:{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ }
[ آل عمران: 165]، وأدخل هذه الآية في أثناء قصة أحد {  وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }، [ آل عمران: 123 ]،. وكذلك يبشر الله عبده بالمخرج منها حين تباشره المصائب،  ليكون هذا الرجاء مخففاً لما نزل به من البلاء،  قال تعالى: { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ  }، [ يوسف: 15 ]، وكذلك رؤيا يوسف كان يعقوب إذا ذكرها رجاء الفرج وهب على قلبه نسيم الرجاء،  ولهذا قال: {  يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ  }، [ يوسف: 87 ]،.
وكذلك قوله لأم موسى في سورة القصص:{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }، [ القصص:7 ]،.
وأعظم من هذا كله: أن وعد الله لرسله بالنصر وبتمام الأمر وحسن العاقبة يهون عليهم به المشقات ويسهل عليهم الكريهات،  فيتلقوها بقلوب مطمئنة وصدور منشرحة،  وألطاف الباري فوق ما يخطر بالبال،  أو يدور في الخيال ولكن أكثر الناس لا يفقهون.


القاعدة التاسعة والخمسون

{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }
ما أعظمَ هذه القاعدةَ،  وما أحكم هذا الأصلَ العظيمَ الذي نص الله نصاً صريحاً على عموم ذلك،  وعدم تقيد هذا الهدى بحالة من الأحوال فكل حالة هي أقوم،  في العقائد والأخلاق والأعمال والسياسات الكبار والصغار والصناعات والأعمال الدينية والدنيوية فإن القرآن يهدي إليها ويرشد إليها،  ويأمر بها ويحث عليها.
معنى { أَقْوَمُ }، أيْ أكرم وأنفس وأصلح وأكمل استقامة،  وأعظم قياماً وصلاحاً للأمور.
فأما العقائد فإن عقائد القرآن هي العقائد النافعة التي فيها لصلاح القلوب وحياتها وكمالها،  فإنها تملأ القلوب عزة وكرامة بشعورها بالتجرد من الذل لمخلوق مثلها،  وشرفها بتخصصها لمحبة الله تعظيماً له وتألهاً وتعبداً وإنابة،  وهذا المعنى هو الذي أوجد الله الخلق لأجله.
وأما أخلاقه التي يدعو إليها فإنه يدعو إلى التحلي بكل خلق جميل،  من الصبر والحلم والعفو والأدب وحسن الخلق وجميع مكارم الأخلاق،  ويحث عليها بكل طريق ويرشد إليها بكل وسيلة. وأما الأعمال الدينية التي يهدي إليها: فهي أحسن الأعمال التي قيها القيام بحقوق الله وحقوق العباد على أكمل الحالات وأجلها وأسهلها وأوصلها إلى المقاصد.
وأما السياسات الدينية والدنيوية: فهو يرشد إلى سلوك الطرق النافعة في تحصيل المقاصد والمصالح الكلية،  وفي دفع المفاسد،  ويأمر بالتشاور على ما لم تتضح مصلحته والعمل بما تقتضيه المصلحة في كل وقت بما يناسب ذلك الوقت والحال. حتى في سياسة الوالد مع أولاده وزوجه وأهله وخادمه وأصحابه ومعامليه،  فلا يمكن أنه وجد أو يوجد حالة يتفق العقلاء أنها أقوم وأصلح من غيرها،  إلا القرآن يرشد إليها نصاً وظاهراً،  أو دخولاً تحت قاعدة من قواعده الكلية.
وتفصيل هذا الأصل لا يمكن استيفاؤه في هذه القواعد الإجمالية،  فكل التفاصيل الواردة في الكتاب والسنة،  وما تقتضيه المصالح تفصيلاً لهذا الأصل المحيط.
وبهذا وغيره تبين لك أنه لا يمكن أن يرد علم صحيح أو معنى نافع أو طريق صلاح ينافي القرآن. والله ولي الإحسان.


القاعدة الستون

أنواع التعليم القصصي في القرآن

من قواعد التعليم التي أرشد الله إليها في كتابه،  أن القصص المبسوطة يجملها في كلمات يسيرة ثم يبسطها،  وأن الأمور المهمة ينتقل في تقريرها نفياً وإثباتاً من درجة إلى أعلى أو أنزل منها.
وهذه قاعدة نافعة،  فإن هذا الأسلوب العجيب يصير له موقع كبير،  وتتقرر فيه المطالب المهمة،  وذلك أن القصة إذا أجملت بكلام يكون لها كالأصل والقاعدة،  ثم يقع التفصيل لذلك الإجمال،  يحصل به الإيضاح والبيان التام الكامل الذي يقع ما يقاربه لو فصلت القصة الطويلة من دون تقدم صورة إجمالية لها،  فإن الصورة تشوق إلى التفصيل.
وقد ورد هذا في القرآن في مَواضع:
منها: في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام: في قوله:{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ 
[ يوسف: 3 ]، ثم أخذ في تفصيلها: {  لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ }، [ يوسف: 7 ]، ثم ساق القصة بتمامها.
وكذلك قصة أهل الكهف: قال في تصويرها الإجمالي:{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً {9} إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً {10} فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً {11} ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً } [ الكهف: 9-12 ]، فهذه الكلمات القليلة قد حوت مقصودها وزبدتها،  ثم بسطها بقوله: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقّ }، [ الكهف: 13 ]،  الآيات إلى آخر القصة.وكذلك قصة موسى: قال: {  نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }، { القصص: 3 ]، إلى قوله: { يَحْذَرُونَ }، [ القصص: 6 ثم أتى بعد ذلك بالتفصيل.
وقال في قصة آدم:{ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }، [ طـه: 115 ]، ثم أتى بعد ذلك بالقصة. وأما التنقل في التقرير الأشياء من أمر إلى ما هو أولى منه،  فكثير.
منه: قوله تعالى في الإنكار على من جعل مع الله إلهاً آخر،  وإبطال زعمه الكاذب الذي هو أساس الوثنية: أن هؤلاء الأولياء والآلهةأبناء الله؛ لأنهم النور الذي انبثق منه تجسدوا بشراً ثم عادوا إلى النورانية، فيقول: { مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ }، [ الكهف: 5 ]، فأبان أن قولهم هذا بلا علم ومن المعلوم: أنه كل قول بلا علم من الطرق الباطلة. ثم صرح بقبحه قولُه: {  كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ  }، [ الكهف: 5 ]، ثم ذكر له مرتبة من البطلان أسفل: { إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً  }، [ الكهف: 5 ]، وقال في حق المنكرين للعبث: {  بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ  }، [ النمل: 66 ]، أيْ علمهم فيها علم ضعيف سافل إلى أحط الدركات،  لا يعتمد عليه إلا سفيه ثم انتقل إلى ما هو ابلغ منه،  فقـال: {  بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ  }، [ النمل: 66 ]، والعمى آخر مراتب الحيرة والضلال.
وقال عن نوح في تقرير رسالته وإبطال قول من كذبه،  وزعم أنه في ضلال مبين: {  قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ }، [ الأعراف: 61 ]، ثم لما نفى الضلالة من كل وجه أثبت الهدى الكامل له،  فقال:{ لَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ  }، [ الأعراف: 61 ]، ثم انتقل إلى ما هو أعلى منه، وأن مادة هذا الهدى الذي جئت به من الوحي الذي هو أصل الهدى ومنبعه،  فقال:{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }، [ الأعراف: 61 ]، وكذلك هود عليه الصلاة والسلام، وقال في تقرير رسالة أفضل الرسل وخاتمهم: {  وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى {1} مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى }، [ النجم: 1-2 ]، فنفى عنه ما ينافي الهدى من كل وجه ثم قال: { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى  }، [ النجم: 4 ]،  الآيات.
وهو في القرآن كثير جداً،  كانتقاله من ذكر هبة الولد لزكريا على كبره وعقم زوجته،  إلى ذكر مريم وعيسى،  وكذلك أمر بالتوجيه إلى الكعبة بعد أن قرر في الآيات السابقة حرمتها وعظمتها،  وهذا في القرآن كثير.


القاعدة الحادية والستون

معرفة الأوقات وضبطها حث الله عليه، حيث يترتب عليه حكم عام أو حكم خاص

وذلك أن الله رتب كثيرأ من الأحكام العامة والخاصة على مُدد وأزمنة تتوقف الأحكام عملاً وتنفيذاً على ضبط تلك المدة وإحصائها وتحديدها.
قال تعالى: {  يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ  }، [ البقرة: 189 ]،.
فقوله: {  مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ  }، يدخل فيه مواقيت الصلوات والصيام والزكاة والعقود وغيرها،  وخص بالذكر الحج لكثرة مل يترتب عليه من الأوقات العامة والخاصة. وكذلك مواقيت للعدد والديون والإجارات وغيرها،  قال تعالى لما ذكر العدة: { وَأَحْصُوا العِدَّةَ }، [ الطلاق: 1 ]، وقوله في الصيام: {  فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ  }، [ البقرة: 184 ]،  وقال تعالى: {  لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ  }، [ البقرة: 226 ]،  {  إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً
[ النساء: 103 ]، وقال تعالى:{ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً }، [ الكهف: 12 ]،. وذلك لمعرفة كمال قدرة الله في إفاقتهم،  فلو استمروا على نومهم لم يحصل الاطلاع على شيء من ذلك من قصتهم،  فمتى ترتب على ضبط الحساب وإحصاء المدة،  مصلحة في الدين والدنيا،  كان مما حث وأرشد إليه القرآن.
ويقارب هذا المعنى: قوله تعالى:{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
[ البقرة: 259 ]،  الآية،  وقوله:{ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } [  الإسراء: 12 ]، ونحوها من الآيات.


القاعدة الثانية والستون

الصبر أكبر عون على جميع الأمور،
والإحاطة بالشيء علما وخبرا هو الذي يعين على الصبر.

وهذه القاعدة عظيمة النفع قد دل القرآن عليها صريحا وظاهرا في أماكن كثيرة:
قال تعالى: {  وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ  }، [ البقرة: 45 ]، أيْ: استعينوا على جميع المطالب،  وفي جميع شئونكم بالصبر،  فبالصبر يسهل على العبد القيام بالطاعات،  وأداء حقوق الله وحقوق عباده،  وبالصبر يسهل عليه ترك ماتهواه نفسه من المحرمات،  فينهاها عن هواها حذر شقاها،  وطلباً لرضى مولاها،  وبالصبر تخف عليه الكريهات.
ولكن لهذا الصبر وسيلته وآلته التي ينبني عليها،  ولا يتم وجوده إلا بها: وهي معرفة الشيء المصبور عليه،  ومعرفة ما فيه من الفضائل وما يترتب عليه من الثمرات.
فمتى عرف العبد ما في الطاعات من زيادة الإيمان،  وصلاح القلوب واستكمال الفضائل،  وما تثمره من الخيرات والكرامات،  وما في المحرمات من الضرر والرذائل وما توجبه من العقوبات المتنوعة،  وعلم ما في أقدار الله من البركة وما لمن قام بوظيفته فيها من الأجور. إذا عرف ذلك هان عليه الصبر على جميع الشدائد.
وبهذا فضل العلم،  وأنه أصل الفضائل كلها ولهذا يذكر الله تعالى كثيراً في كتابه أن المنحرفين في الأبواب الثلاثة ما انحرفوا إلا لقصور علمهم،  وعدم إحاطتهم التامة بها.
وقال: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ  }، [ فاطر: 28 ]، وقال: {  إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ  }، [ النساء: 17 ]، ليس معناه: أنهم لا يعترفون أنها ذنوب وسوء،  وإنما قصر عملهم وخبرتهم،  بما توجبه الذنوب من العقوبات وأنواع المضرّات وزوال المانع.
وقال تعالى مبينا أنه متقرر أن الذي لا يعرف ما يحتوي عليه الشيء يتعذر عليه الصبر،  فقال عن الخضر لما قال له موسى وطلب منه أن يتعين ليتعلم مما علمه الله قال: {  قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً {66} قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً {67} وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً  }، [ الكهف: 66-68 ]، فعدم إحاطته به خبرا يمتنع معه الصبر،  ولو تجلد ما تجلد فلابد أن يُعال صبره.
وقال تعالى مبيناً عظمة القرآن وما هو عليه من الجلالة والصدق الكامل: {  بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ  }، [ يونس: 39 ]، فبين أن الأعداء المكذبين إنما كان تكذيبهم به لعدم إحاطتهم بما هو عليه،  وأنهم لو أدركوه وأحاطوا به كما هو عليه،  لألجأهم إلى التصديق والإذعان،  فهم وإن كانت الحجة قد قامت عليهم ولكنهم لم يفقهوه الفقه الذي يطابق معناه،  ولم يعرفوه حق معرفته،  فقال في المعاندين الذين بان لهم علمه وخبروا صدقه: {  وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً  }، [ النمل: 14 ]، وقال الله تعالى: {  فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ  }، [ الأنعام: 33 ]، والمقصود أن الله تعالى أرشد العباد إلى الاستعانة على كل أمورهم بملازمة الصبر،  وأرشدهم إلى تحصيل الصبر بالنظر إلى الأمور،  ومعرفة حقائقها وفضائلها ورذائلها. والله أعلم.


القاعدة الثالثة والستون

العبرة بصدق الإيمان وصلاح الأعمال

يرشد القرآن إلى أن العبرة بحسن حال الإنسان وإيمانه الصحيح وعمله الصالح،  وأن الاستدلال على ذلك بالدعاوى المجردة أوبإعطاء الله للعبد من الدنيا بالرياسات والأمور الدنيوية والتقاليد الموروثة: كل ذلك من طرق المنحرفين،  والقرآن يكاد أن يكون أكثره تفصيلاً لهذا الأصل وقد قال تعالى: { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا }، [ سـبأ: 37 ]، وقال تعالى: {  يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ {89} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء: 88-89 ]،.وقد أكثر الله هذا المعنى في عدة مواضع. وأما حكاية المعنى الآخر عن المنحرفين فقال عن اليهود والنصارى:
{  وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ  }، [ البقرة: 111 ]، ثم ذكر البرهان الذي من أقامه وأتى به فهو المستحق للجنة فقال:
{  بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }، [ البقرة: 112 ]، وقال:{ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ  }، [ النساء: من الآية123 ]، { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [ مريم: 73 ]،
 {  وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ  }، [ الزخرف: 31 ]،  ونحوها من الآيات التي يستدل بها الكفار على حسن حالهم،  بتفوقهم في الأمور الدنيوية،  والرياسات ويذمون المؤمنين مستدلين بنقصهم في هذه الأمور الدنيوية الزائفة،  وهذا من أكبر مواضع الفتن؛ فإن الرياسات والأمور الدنيوية مشتركة بين الخليقة: بَرِّها وفاجرها.


القاعد ة الرابعة والستون

الأمور العارضة التي لا قرار لها بسبب المزعجات أو الشبهات
قد تَردُ على الحق وعلى الأمور اليقينية ولكن
سرعان ما تضمحل وتزول

وهذه قاعدة شريفة جليلة قد وردت في عدة مواضع من القرآن،  فمن لم يحكمها حصل له من الغلط في فهم بعض الآيات ما يوجب الخروج عن ظاهر النص،  ومن عرف حكمة تعالى الله في ورودها على الحق الصريح: لأسباب مزعجة تدفعها أو لشبهة قوية تحدثها ثم بعد هذا إذا رجع إلى اليقين والحق الصريح،  وتقابل الحق والباطل،  ووقعت الخصومة بينهما،  فغلب الحقُ الباطل،  ودمغه فزهق الباطل وثبت الحقُ،  حصلت العاقبة الحسنة،  وزيادة الإيمان واليقين،  فكان في ذلك التقدير حكمٌ بالغة،  وأيادٍ سابغة.
ولنمثل لهذا بأمثلة:
فمنها: أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أكمل الخلق إيماناً ويقيناً،  وتصديقاً بوعد الله ووعيده،  وهذا أمر يجب على الأمم أن يعتقدوا في الرسل،  من أنهم قد بلغوا الذروة فيه،  وأنهم معصومون من ضده،  ولكن ذكر الله في بعض الآيات أنه قد يعرض لهم بعض الأمور المزعجة ـ المنافية حساً لما علم يقينا ـ ما يوجب لهؤلاء الكمل أن يستبطئوا معه النصر،  ويقولون: {  مَتَى نَصْرُ اللَّهِ  }، [ البقرة: من الآية214 ]، وقد يخطر في هذه الحالة على القلوب شيء من عوارض اليأس بحسب قوة الواردات وتأثيرها في القلوب،  ثم في أسرع وقت تنجلي هذه الحال وتنفرج الأزمة ويأتي النصر من قريب {  أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ  }، [ البقرة: 214 ]، فعندئذ يصير لنصر الله وصدق موعوده من الوقع والبشارة والآثار العجيبة أمر كبير،  لا يحصل بدون هذه الحالة،  ولهذا قال: {  حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا }  [ يوسف: من الآية110 ]، فلهذا الوارد الذي لا قرار له،  وعندما حقت الحقائق اضمحل وتلاشى،  لا ينكر ويطلب للآيات تأويلات مخالفة لظاهرها.
ومن هذا الباب بل من صريحه قوله تعالى: {  وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ }  [7] [ الحج: من الآية52 ]، أيْ يلقي من الشبه ما يعارض اليقين.
ثم ذكر الحكم المترتبة على الإلقاء ولكن نهاية الأمر وعاقبته أن الله يبطل ما يلقي الشيطان،  ويحكم الله آياته،  والله عليم حكيم،  فقد أخبر الله بوقوع هذا الأمر لجميع الرسل والأنبياء،  لهذه الحكم التي ذكرها،  فمن أنكر وقوع ذلك بناء على أن الرسل لا ريب ولا شك أنهم معصومون،  وظن أن هذا ينافي العصمة،  فقد غلط أكبر غلط،  ولو فهم أن الأمور العارضة لا تؤثر في الأمور الثابتة لم يقل إلا قولاً يخالف فيه الواقع ويخالف بعض الآيات ويطلب التأويلات المستبعدات.
ومن هذا ـ على أحد قولي المفسرين ـ قوله تعالى عن يونس: {  فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ  
[ الأنبياء: 87 ]، وأنه ظنٌ عرضَ في الحال ثم زال،  نظير الوساوس العارضة في أصل الإيمان التي يكرهها العبد حين ترد على قلبه،  ولكن  إيمانه ويقينه يزيلها ويذهبها ولهذا قال صلى الله عليه وسلم عندما شكى إليه أصحابه هذه الحال التي أقلقتهم،  مبشراً لهم: ( الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة )[8]،  وأخبرهم أن هذا صريح الإيمان.
ويشبه هذا: العوارض التي تعرض في إرادات الإيمان لقوة وارد من شهوة أو غضب،  وأن المؤمن الكامل الإيمان قد يقع في قلبه همٌّ وإرادة،  لفعل بعض المعاصي التي تنافي الواجب ثم يأتي برهان الإيمان،  وقوة ما مع العبد من الإنابة التامة،  فيدفع هذا العارض.
ومن هذا: قوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ  }، [ يوسف: 24 ]، وهو أنه لما رجع إلى ما معه من الإيمان ومراقبة الله وخوفه وخشيته ورجائه،  دفع عنه هذا الهم وموجبه واضمحل،  وصارت إرادته التامة فيما يرضي ربه. ولهذا فاز بمرتبة الصديقية؛ لقوة إخلاصه ويقظة إيمانه بآيات ربه،  وانتصر بعد المعالجة الشديدة من النسوة التي لا يصبر عليها إلا سادات الخلق حتى دعا ربه أن يبعده عن مواطن الفتن،  فقال: {  قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ  }، [ يوسف: 33 ]، وكان كل من يتشبه به ويقف أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ( رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله )[9].
 وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ
[ الأعراف: 201 ]، يشمل الطائف الذي يعرض في أصل الإيمان أو الذي يعرض في إرادته،  فإذا مسهم تذكروا ما يدعو إلى الإيمان وواجباته،  من آيات الله وسننه وحكمته وأحكامه فأبصروا،  فاندفعت الشبهات والشهوات فرجع الشيطان خاسئاً وهو حسير.
ولعل من هذا: قول لوط عليه الصلاة والسلام: {  أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } [ هود: 80 ]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد )[10] يعني: وهو الله القوي العزيز،  لكن غلب على لوط عليه السلام في تلك الحالة الحرجة وملاحظة الأسباب العادية،  فقال ما قال،  مع علمه التام بقوة ذي العظمة والجلال.


القاعدة الخامسة والستون

قد أرشد القرآن إلى المنع من الأمر المباح إذا كان يفضي
إلى ترك الواجب، أو فعل محرم

وهذه القاعدة وردت في القرآن في مواضع متعددة،  وهي من قاعدة: الوسائل لها أحكام المقاصد[11].
فمنها: قوله تعالى: {  وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ 
[ الأنعام: 108 ]،. وقوله: {  وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ  }، [ النور: 31 ]،.
وقوله: {  فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ  }، [ الأحزاب: 32 ]،.
وقوله تعالى: {  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ  }، [ الجمعة: 9 ]،.
فالأمور المباحة هي بحسب ما يتوسل بها إليه،  فإن توسل بها إلى فعل واجب أو مسنون كانت مأموراً بها.
وإن توسل بها إلى فعل محرم أو ترك واجب،  كانت محرمة منهياً عنها وإنما الأعمال بالنيات الابتدائية والغائية،  والله الموفق.

القاعدة السادسة والستون

من قواعد القرآن أنه يستدل بالأقوال والأفعال على ماصدرت عنه
من الأخلاق والصفات

وهذه قاعدة جليلة فإن أكثر الناس يُقْصر نطره على نفس اللفظ الدال على ذلك القول أو الفعل من دون أن يفكر في أصله وقاعدته التي أوجبت حضور ذلك الفعل والقول،  والفطن اللبيب ينظر إلى الأمرين ويعرف أن هذا لازم لهذا،  أو هذا ملزم لهذا. وقد تقدم ما يقارب هذا المعنى الجليل،  ولكن لشدة الحاجة إليه أوردناه على أسلوب آخر،  فمن ذلك أن قوله عن عباد الرحمن أنهم: { يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً } [الفرقان: 63]، ذلك صادرعن وقارهم وسكينتهم وخشوعهم وعن حملهم الواسع وخلقهم الكامل وتنزيههم لأنفسهم عن مقابلة الجاهلين،  ومثل قوله: { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } [النمل: 17]،  يدل على ذلك حسن إدارة المُلْك وكمال السياسة وحسن النظام.
وقوله تعالى: { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [القصص: 55]، يدل على حسن الخلق ونزاهة النفس عن الخلاق الرذيلة وعلى سعة عقولهم وقوة حملهم واحتمالهم ومثل الأخبار عن أهل الجاهلية في تقتيل أولادهم خشية الفقر أو من الإملاق يدل على شدة هلعهم وسوء ظنونهم بربهم وعدم ثقتهم بكفايته،  وكذلك قوله عن أعداء رسول الله: {  وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } [القصص: 57]،  يدل على ظنونهم بالله وأن الله لا ينصر دينه ولا يتم كلمته،  وأمثلة هذا الأصل واضحة لكل صاحب فكرة حسنة.


القاعدة السابعة والستون

يرشد القرآن إلى الرجوع إلى الأمر المعلوم المحقق،
للخروج من الشبهات والتوهمات

وهذه القاعدة جليلة يعبر عنها: بأن الموهوم لا يدفع المعلوم،  وأن المجهول لا يعارض المحقق. ونحوها من العبارات.
وقد نبه الله عليها في مواضع كثيرة:
منها: لما أخبر عن الراسخين في العلم،  وأن طريقتهم في المتشبهات: أنهم يقولون: {  آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا }، [ آل عمران: 7 ]، فالأمور المحكمة المعلومة،  يتعين أن يرد إليها كل أمر مشتبه مظنون. وقال تعالى في زجر المؤمنين عن مجاراة الشائعات التي يقولها أهل السوء في إخوانهم المؤمنين:

{  لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ  }، [ النور: 12 ]،  فأمرهم بالرجوع إلى ما عُلم من إيمان المؤمنين الذي يدفع السيئات،  وأن يعتبروا هذا الأصل المعلوم،  ولا يعتبروا كلام الخبيثين بما يناقضه،  ويقدح فيه.
وقال تعالى: {  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً }، [ الأحزاب: 69 ]، فوجاهته عند الله تدفع عنه وتبرئه من كل عيب ونقص قاله من آذاه لأنه لا يكون وجيها عند ربه حتى يسلم من جميع المنقصات ويتحلى بجميع الكمالات اللائقة بأمثاله من أولي العزم. فيحذر الله هذه الأمة أن يسلكوا مسلك من آذى موسى مع وجاهته،  فيؤذوا أعظم الرسل جاهاً عند الله،  وأرفعهم مقاماً ودرجة،  وأرأفهم بالمؤمنين وأكثرهم إحساناً إلى الخلق.
وقال تعالى: { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ  }، [ يونس: 32 ]،
 { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقّ  }، [ سـبأ: من الآية6 ]،.

القاعدة الثامنة والستون

ذكر الأوصاف المتقابلات يغنى عن التصريح بالمفاضلة إذا كان الفرق معلوماً

وهذه القاعدة في القرآن كثير يذكرها في المقامات المهمة كالمقابلة بين الإيمان والكفر والتوحيد والشرك،  وبين إلهية الحق وإلهية من سواه،  ويذكر تباين الأوصاف التي يعرف العقلاء بالبداهة التفاوت بينها ويدع التصريح بالمفاضلة للعقلاء،  قال تعالى: {  أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [يوسف: 39]، { آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ { 59 }، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } [النمل: 59-60]،  والآيات التي بعدها: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } [الزمر: 29]، { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } [هود: 24]،  وقال تعالى:{ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } [البقرة: 140]،  {  قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } [يونس: 59]، {  قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9]،  وقال قبلها: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } [الزمر: 9]،  فهذا الموضع ترك القسم الآخر كما ترك التصريح بالمفاضلة،  لعلمه من المقام،  فقوله: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ  }، إلخ يعنى كمن ليس كذلك،  والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهو من بلاغة القرآن وأسلوبه العجيب، كقوله: { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الملك: 22]، ولما ذكر أوصاف الرسول الداعي وما يدعو إليه وأعظم الناس معارضة له قال: { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [سبأ: 24]،  {  فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ { 5 }، بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ } [القلم: 5-6]، 
 { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } [البقرة: 256]،  { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وذلك أنه إذا ميزت الأشياء تمييزاً تاماً عرفت مراتبها في الخير والشر والكمال والنقص صار التصريح بعد ذلك أفضل لا معنى له،  والله أعلم.


القاعدة التاسعة والستون

من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه

وهذه القاعدة وردت في القرآن في مواضع كثيرة.
 فمنها: ما ذكره الله عن المهاجرين الأولين الذين هجروا أوطانهم وأموالهم وأحبابهم لله،
فعوضهم الله الرزق الواسع في الدنيا،  والعز والتمكين.
وإبراهيم صلى الله عليه وسلم لما اعتزل قومه وأباه،  وما يدعون من دون الله،  وهب له إسحاق ويعقوب والذرية الصالحين.
ويوسف عليه السلام لما ملك نفسه من الوقوع مع امرأة العزيز،  مع ما كانت تمنيه به من الحظوة وقوة النفوذ في قصر العزيز ورياسته وصبر على السجن وأحبه وطلبه ليبعده عن دائرة الفساد والفتنة عوضه الله أن مكن له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء،  ويستمتع بما شاء مما أحل الله له من الأموال والنساء والسلطان.
وأهل الكهف لما اعتزلوا قومهم وما يعبدون من دون الله،  نشر لهم من رحمته وهيأ لهم أسباب المرافق والراحة وجعلهم سبباً لهداية الضالين.
ومريم ابنة عمران لما أحصنت فرجها أكرمها الله ونفخ فيه من روحه وجعلها وابنها آية للعالمين. وسليمان عليه السلام لما ألهته الخيل عن ذكر ربه فأتلفها،  عوضه الله الريح تجري بأمره،  والشياطين كل بناء وغواص.
ومن ترك ما تهواه نفسه من الشهوات لله تعالى عوضه الله من محبته وعبادته والإنابة إليه ما يفوق لذات الدنيا كلها.


القاعدة السبعون

القرآن كفيل بمقاومة جميع المفسدين ولا يعصم من جميع الشرور إلا التمسكُ بأصوله وفروعه وتنفيذ شرائعه وأحكامه

قد تقدم من الأدلة على هذا الأصل الكبير في دعوة القرآن إلى الإصلاح والصلاح،  وفي طريقته في محاجة أهل الباطل،  وفي سياسته الداخلية والخارجية ما يدل على هذا الأصل.
ويعرف الخلق أن العصمة من الشرور كلها لا طريق لها إلا التمسك بهذا القرآن وأصوله وعقائده وأخلاقه وآدابه وشرائعه.
ولكن نزيد هنا بعض التفصيلات،  فنقول: أهل الشر والفساد نوعان؛
أحدهما المبطلون في عقائدهم وأديانهم ومذاهبهم الذين يدعون إليها،  ففي القرآن من الاحتجاج على هؤلاء وإقامة الحجج والبراهين على فساد قولهم شيء كثير،  لا يأتي مبطل يقول إلا وفي القرآن بيانه بالحق الواضح والبرهان الجلي،  ففيه الرد على جميع المبطلين من الدهريين والماديين والمشركين والمتمسكين بالأديان المبدلة والمنسوخة من اليهود والنصارى والأميين
 { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً }، [ الفرقان: 33 ]، يذكر الله حجج هؤلاء ويرفضها ويبدي من الأساليب المتنوعة في إفسادها ما هو معروف،  وتفصيل هذا بالجملة لا يحتمله هذا الموضع.
النوع الثاني: من المقومين للأديان والدنيا والسياسات والحقوق الشيوعيون الذين انتشر شرهم وتفاقم أمرهم وسرت دعايتهم في طبقات الخلق سريان النار في العشب الهشيم ولم يكن عند الأكثرين ما يرد صولتهم ويقمع شرهم،  وإنما عندهم من الأصول والعقائد والأخلاق والسياسات ما يمكن امثال هؤلاء الذين هم فساد العباد والبلاد،  ولكن ـ ولله الحمد ـ القرآن العظيم والدين القويم قد تكفل بمقاومة هؤلاء كما تكفل بمقاومة غيرهم وفيه من الأصول والأخلاق والآداب الراقية ما يردهم على أعقابهم منهزمين. فما فيه من العدل ووجوب الحقوق العادلة بين طبقات الناس بحسب أحوالهم وما فيه من إيجاب الزكاة والإلزام بها،  ودفع حاجات الفقراء والمساكين ووجوب القيام بالمصالح الكلية والجزئية ووجوب الملاك والحقوق،  كل هذا أعظم صدق وأحسن حكم للوقاية من شرور هؤلاء المفسدين،  وكذلك ما حَضَّ عليه القرآن من لزوم الآداب العالية والأخلاق السامية والأخوة الدينية والرابطة الإسلامية يمنع من تغلل شرورهم التي طريقها الأقوم تحليل الأخلاق وانحلال الآداب وتحلل الروابط النافعة والثورة العامة على الرأسماليين الذين يجمعون ويمنعون،  فهؤلاء وإن أبدوا من القوة المادية والتسلط على العباد بالقهر والاستعباد والطمع والجشع فإنهم لا ثبوت لهم على مقاومة هذا التيار المزعج المخرب المدمر ما مر عليه،  فما معهم من سلاح يقاوم سلاحهم،  ولا قوة تجابه قوتهم،  لكونهم لم يتمسكوا بالقرآن الذي فيه العصمة والقوة المعنوية والصلاح والإصلاح والعدل ودفع الظلم والآداب والأخلاق العالية التي لا تزعزعها عواصف الخراب،  بل تقذف بالحق على الباطل فتدمغه فإذا هو زاهق،  فإذا جاء هؤلاء المفسدون بالتعطيل المحصن والإنكار والصرف أبدى القرآن من الحجج والبراهين على وجود الله وصدقه وصدق من جاء به ما تصدع له الجبال وتخضع له فحول الرجال،  وإذا تسرب هؤلاء الأشرار لتوسط الأخلاق الرذيلة وانحلال الآداب الجميلة ووجدوا مسلكاً في هذا الطريق يعينهم على تنفيذ باطلهم جاءهم هذا القرآن بالحث على الأخلاق العالية والأعمال الصالحة والأداب الجميلة التي لا تدع للشر على صاحبه سبيلاً،  وإذا صالوا بالفقر والفقراء ووجوب المساواة واحتجوا على أرباب الأموال بالاحتكار والسيطرة واستعبادهم،  للعباد واستبدادهم بالأملاك والأموال ولم يجد هؤلاء العظيم بعدله وقسطه وإيجاب الحقوق المتنوعة الدافعة للحاجات كلها بعد قيامها بالضرورات بصدهم ومقاومتهم وإبطال كل ما به يصولون ويجولون ثم إذا برز بصلاحه وإصلاحه العظيم ونظامه الحكيم وهديه القويم وحثه على سلوك الصراط المستقيم ونوره الساطع وحججه القواطع لم يبق في وجهه باطل إلا محقه ولا شر إلا سحقه ولا بقى من قصده الحق والصواب إلا اختاره،  واعتنقه ولا تأمله صاحب عقل إلا صدع له،  فهو الحصن الحصين من جميع الشرور،  وهو القامع لكل من قاومه في كل الأمور.


القاعدة الواحدة السبعون

في اشتمال كثير من ألفاظ القرآن على جوامع المعاني

اعلم أن ما مضى من القواعد السابقة هي المقصود بوضع هذا الكتاب،  وهو بيان الطرق والمسالك والأصول التي يرجع إليها كثير من الآيات،  وأنها وإن تنوعت ألفاظها،  واختلفت أساليبها وتفاصيلها،  فإنها  ترجع إلى أصل واحد،  وقاعدة كلية.
وأما نفس ألفاظ القرآن الحكيم فإن كثيراً منها من الألفاظ الجوامع،  وهي من أعظم الأدلة على أنها تنزيل من حكيم حميد وعلى صدق من أعطي جوامع الكلم،  واختصر له الكلام اختصاراً، .
ولنضرب لهذا أمثلة ونماذج فمنها:
قوله تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا }، [ فصلت: 46 ]، { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } {  يونس: 26 }،  { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }، [ الرحمن: 60 ]، { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ }، [ الواقعة: 10 ]، { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ }، [ النحل: 90 ]، الآية،  { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ }، [ المائدة: 2 ]، { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }[ النحل: 97 ]،
{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ }، [ الزلزلة: 7 ]، { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة:8 ]، { وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً }، [ المزمل: 20 ]، { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ }، [ البقرة: 197 ]، { مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ }، [ النساء: 123 ]، { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب }، [ الزمر: 10 ]، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا }، [ النساء: 94 ]، { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا }، [ الحجرات: 6 ]، { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ }، [ الشورى: 38 ]، { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ }، [ آل عمران: 159 ]، { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } [ النساء: 40 ]،{ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ }، [ النساء: 128 ]، { إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ }، [ يونس: 81 ]، { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ }، [ البقرة: 205 ]، { يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }، [ الانفطار: 19 ]، { فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً }، [ الجـن: 18 ]،{ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً }، [ البقرة:22 ]، { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ }، [ الزمر: 3 ]، { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ }، [ غافر: 14 ]، { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }، [ التغابن: 16 ]، { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } [ هود: 3 ]، { وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } [ البقرة: 237 ]، { وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } [ الأعراف: 85 ]، { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }
[ هود:11:21 ]، { فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ }[ فصلت: 6 ]،{ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }، [ هود: 115 ]، { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [ هود: 114 ]، { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف: 24 ]، { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [ الصافات: 80 ]، { وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَل }، [ الرعد: 21 ]، الآيات، { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا 
{ الشورى: 40 }،  { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ }، [النحل: 126 ]، { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [ البقرة: 194 ]، { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء: 9 ]، { يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ }، [ الجـن: 2]، { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء: 15 ]، { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ }، [ التوبة:91 ]، { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ }، [ الأعراف:157 ]، الآية،{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }، [ الشورى:40]، { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً }، [ الكهف: 46 ]،  { وَخَيْرٌ مَرَدّاً }، [ مريم: 76 ]، { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }، [ البقرة: 185 ]، { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }، [ الحج: 78 ]، { لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا }، [ البقرة: 233 ]، { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا }، [ الطلاق: 7 ]، { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ }، [ الطلاق: 7 ]، { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ }، [ الأحزاب: 4 ]، { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً }، [ الفرقان: 33 ]، { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }، [ الأحزاب: 21 ]، { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ }، [ الحشر: 7 ]، { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ }، [ الأحزاب: 53 ]، { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا }، [ الأحزاب: 58 ]، الآية،  { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ }، [ لأنفال: 60 ]، { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }، [ البقرة: 201 ].
فهذه الآيات الكريمات وما أشبهها كل كلمة منها قاعدة،  وأصل كلي يحتوي على معان كثيرة.
وقد تقدم في أثناء القواعد منها شيء كثير،  وهي متيسرة على حافظ القرآن،  المعتني بمعرفة معانية ولله الحمد.
والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات،  وقد يسر الله تعالى علينا ما من بجمعه،  فجاء ـ ولله الحمد ـ على اختصاره ووجازته ووضوحه كتابا يسر الناظرين ويعين على فهم كلام رب العالمين،  ويبدي لأهل البصائر والعلم من المعاقل والمسالك والطرق والأصول النافعة ما لا يجده مجموعا في محل واحد،  ومخبر الكتاب يغني عن وصفه.
وأسأله تعالى أن يجعله خالصا لوجه الكريم،  مقربا لديه في جنات النعيم،  وأن ينفع به مؤلفه وقارئه،  والناظر فيه وجميع المسلمين،  بمنه وكرمه وجوده وإحسانه وهو خير الراحمين،  وصلى اله على محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين،  وعلى التابعين لهم بإحسان إلا يوم الدين.
قال ذلك وكتبه جامعه العبد الفقير إلى الله في كل أحواله عبد الرحمن بن ناصر أبو عبد الله السعدي.
وقد تم ذلك في {  6 شوال سنة 1365 هـ }
والحمد لله رب العالمين.


[1] ـ أخرجه مسلم عن أبي هريرة
[2] يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " فائدته أن الحكم عام لهم ولغيرهم . وهناك فائدة أخرى أن هذا الأجر ثبت من أجل الإيمان، فكل مؤمن وإن لم يستطع الإنفاق فإن الله تعالى يؤتيه أجرا عظيما. "
[3] يقول الشيخ ابن عثيمين: " وهذا يعرف الإنسان به فضل ربه عز وجل وإحسانه إلى خلقه أنه إذا منعهم من شيء فتح لهم أبوابا خيرا منه، فقوله تعالى: " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض " يعني من العلم والمال والجاه والرئاسة وغير ذلك، الله سبحانه وتعالى فضل الناس بعضهم على بعض، فلا تتمنى أن يكون ما أعطاه الله أخاك لك دون أخيك، ولهذا قال:  " ولا تتمنوا ما فضل الله " ولم يقل:  ولا تتمنوا مثل ما فضل الله، لأن الإنسان يجوز أن يتمنى مثل ما فضل الله به بعض عباده."
[4] يقول الشيخ ابن عثيمين: " خلاصة هذه القاعدة أن الأجر على قدر المشقة، وفيها أيضا بيان المنة على العباد بتسهيل الطاعات، وأن تسهيل الطاعات من آثار رحمته"
[5] متفق عليه من حديث عمر:  البخاري برقم 1 ومسلم برقم 1907
[6] أخرجه أبو داود برقم 2513 والنسائي برقم 6/28. وصححه الحاكم وابن خزيمة.
ولقد أورد المؤلف هنا ثلاثة أمور، وقد جعلها ابن عثيمين أربعة أمور هي:  1- يكتب للعبد عمله الذي باشره. 2- يكمل له ما شرع فيه ولم يكمله. 3- يكتب له ما نشأ من عمله. 4- ويكتب له ما تركه لعذر وكان يعمله. 
[7] تنازع الناس في تفسير هذه الآية تنازعا كبيرا، ولقد قال الشيخ ابن عثيمين قولا صائبا إن شاء الله تعالى نحب أن نذكره للقارئ:
" سياق الآيات يدل على أن الذي يلقيه الشيطان في أمنيته قول يُسمع، فيظن أنه قرآن ثم بعد ذلك ينسخ الله هذا القول ويبين بطلانه ويحكم الله آياته، ويكون هذا القول فتنة للذين في قلوبهم مرض، وأما الذين أوتوا العلم فإنهم يعلمون أنه ليس بشيء وليس بصواب"
[8] أخرجه أبو داود 5112 والنسائي 668 عن ابن عباس وصححه ابن حبان147
[9] متفق عليه رواه البخاري برقم 1423 ومسلم برقم 1031
[10] متفق عليه البخاري برقم 3372 ومسلم برقم 151 عن أبي هريرة
[11] يقول الشيخ ابن عثيمين: " وهذه القاعدة من قاعدة الوسائل لها أحكام المقاصد يعني ما كان وسيلة إلى شيء فله حكم ذلك الشيء. فالذي يؤدي إلى الواجب يكون واجبا، وما كان يؤدي إلى المحرم كان حراما " 

 
Design by Wordpress Theme | Bloggerized by Free Blogger Templates | Best Buy Printable Coupons